بقلم: سليمان جودة
كان بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة العائد في تل أبيب، قد غادر رئاسة الحكومة في المرة السابقة، ولسان حاله هو ذاته لسان حال أستاذ اللغة الذي مات وفي نفسه «شيء من حتى»!
وكان أستاذ اللغة العربية الذي لا تزال حكايته تنتقل من جيل إلى جيل، قد أمضى حياته يبحث في أصل وفصل لفظة من ألفاظ اللغة، وكانت هذه اللفظة هي «حتى»، ولكن شاء القدر أن يغادر الدنيا وهو لم يصل بعد إلى ما كان يريده فيها، ولهذا السبب قيل عنه إنه مات وفي نفسه شيء من «حتى».
وصارت حكايته من بعده مثلاً نضربه، ونستدعيه، ونستشهد به، كلما وجدنا أن بين ما نتابعه في أيامنا، وما عاش الرجل يتمنى أن يصل إليه في أصل وفصل اللفظة، خيطاً رفيعاً يمتد ويربط بيننا هنا، وبينه هو في أيامه هناك.
ومن الوارد أن تكون قصته مسألة خيالية في الأساس، ولكن خياليتها ليست هي الموضوع، ولا حتى واقعيتها إذا كانت قد وقعت بالفعل في دنيا الناس، فالمهم هو معناها الذي يسعفنا في الكثير من الحالات، والذي لن يخذلنا في حالة نتنياهو بالذات.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي العائد قد رحل عن رئاسة الحكومة في المرة السابقة، وفي نفسه شيء من زيارة إلى أبوظبي عاش يتمناها، وكان قد أعلن من جانبه عن موعد الزيارة باليوم والساعة، وكان ذلك في مارس (آذار) 2021. وكان ذلك بالتنسيق طبعاً مع الحكومة في الإمارات، لولا أن الزيارة تأجلت بشكل مفاجئ في اللحظة الأخيرة، بعد أن كانت طائرته على وشك الإقلاع!
ولم يكن السبب أن الطائرة أصابها العطل فجأة، ولا كان السبب أن العاصمة الإماراتية اعتذرت عن استقباله، ولكن السبب كان أن السلطات الأردنية رفضت مرور طائرته في المجال الجوي الأردني، وكان هذا المجال هو سبيله المقرر مسبقاً في الرحلة، ولم يكن أمامه مفر من تأجيل الرحلة في لحظتها الأخيرة، وقد أعلن ذلك في وقته وهو لا يداري حزنه على عدم إتمام زيارة كان يعول عليها الكثير.
ولم يكن في إمكانه أن يقوم بها لاحقاً؛ لأن الزيارة ما كادت تتأجل حتى قامت قيامة حكومته في عاصمة الدولة العبرية، وحتى غادر هو منصبه، ليأتي من بعده نفتالي بينيت، ثم يائير لابيد، وكلاهما تبادل رئاسة الحكومة إلى أن سقطت في حجره هو من جديد.
ورغم أنه تسلم مهام منصبه قبل أيام أقل في عددها من أصابع اليدين، فإنه ما كاد يستقر في مقعده على رأس الحكومة أول هذا الشهر، حتى بادر بالإعلان عن أنه سيزور أبوظبي خلال أيام قليلة، وأن الزيارة ربما تكون في الأسبوع المقبل دون تأخير.
ولا بد أنه قد ساءه أن يقوم رئيس الوزراء اللاحق له بالزيارة المؤجلة، ولا بد أنه كان يتميز غيظاً وهو يتابع خلفه في زيارته إلى الإمارات. لا بد أن ذلك قد حدث، أما سببه فهو أن نتنياهو قد عاش يرى نفسه الأحق بالزيارة من أي مسؤول إسرائيلي آخر، ولماذا لا يكون الأحق والأجدر، وهو الذي قاد الاتفاقيات الإبراهيمية الشهيرة التي أطلقت علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وأربع دول عربية؟!
كان ذلك في نهايات أيام دونالد ترمب في البيت الأبيض، وكان إطلاق العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأربع ثمرة من ثمار عملهما معاً، وكانا يخططان لإطلاق علاقات دبلوماسية مع دول عربية أخرى، لولا أن الرياح جاءت بما لم تكن تشتهيه سفنهما، فغادر ترمب مكتبه البيضاوي على غير توقع منه، وما لبث نتنياهو حتى لحق به على ذات الطريق بعده بأسابيع.
وكان يعز عليه أن يجيء بينيت، فيقطف ثماراً انتظرها هو، أو يأتي لابيد فيتصرف على أساس أن له نصيباً في هذه الثمار.
وقد بلغ في جنونه بأنه صاحب الموضوع من أوله إلى آخره، حداً جعله يبادر إلى إطلاق تصريح يؤكد ذلك، بمجرد أن جاءه تكليف بتشكيل الحكومة الجديدة من الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتسوغ.
جاءه التكليف في الصباح فخرج في المساء يقول إن إطلاق المزيد من العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية أولوية تتقدم ما عداها بالنسبة لحكومته، وأنه سوف يسعى منذ الساعة الأولى لوجوده في السلطة إلى توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية، وأن السلام مع الفلسطينيين يمكن أن يأتي لاحقاً، وأن السلام معهم في نظر حكومته فرع، بينما السلام مع الدول العربية أصل.
ولم يكن كلامه هذا صحيحاً ولا دقيقاً، ولا كان في موضعه الذي يجب أن يكون فيه؛ لأنه بمثابة مَنْ يضع العربة أمام الحصان.
وهو لا يضع أولوياته على هذا الأساس، إلا لأن إطلاق العلاقات الدبلوماسية التي يتحدث عن استعداده لإطلاقها، والتي أطلقها من قبل، لا تكاد تكلفه شيئاً يُذكر، ولكن إطلاق عملية سلام جادة مع فلسطين تكلفه طبعاً، وتظل تدعوه وتدعو كل رئيس حكومة إسرائيلية سواه إلى دفع ثمن لا بد منه ولا مفر.
ولا تزال المشكلة لديه، ثم لدى كل مسؤول إسرائيلي يحمل أفكاره نفسها، أنهم يريدون سلاماً مع الفلسطينيين بالمجان، وهذا ما لا يمكن ولا يجوز، ليس بمقاييس السلام والحرب بين الدول، ولكن بمعايير المنطق السليم نفسه الذي يقول: إنه لا شيء بلا ثمن.
ولكنه تصرف من البداية إلى اليوم بمنطق معاكس، وتصرف ولا يزال بمنطق القوة الذي يريد سلاماً مع العرب، ويتغافل عن السلام مع أهل فلسطين. وحتى إذا لم يتغافل عنه ووجد نفسه مضطراً إلى الحديث عنه، فإنه يعود به إلى المربع الأول الذي يريده فيه بالمجان.
وهذه معضلة العقلية المتطرفة في كل زمان وفي كل مكان؛ لأن تطرفها يزين لها نفي الآخر وعدم الاعتراف به، مهما كانت حقائق الواقع من حوله قائمة، وماثلة، وناطقة.
وربما كانت الاستقالة التي سارعت بها ياعيل جيرمان، السفيرة الإسرائيلية في باريس، أكبر من مجرد استقالة يتقدم بها سفير في أي عاصمة. فهي «رسالة» إلى نتنياهو أكثر منها استقالة من منصب، وهي رسالة إلى تيار اليمين الإسرائيلي المتطرف عموماً، أكثر منها رسالة إلى رئيس الوزراء بشخصه وفي حدوده؛ لأنه سيغادر في النهاية مهما طال بقاؤه في منصبه، وإذا لم يغادر في الغد، ففي بعد الغد، لتبقى القضية قضية تطرف تيار لا تطرف شخص.
استقالت ياعيل وهي تقول ما معناه، إنها لا تجد نفسها قادرة على الدفاع عن حكومة هذا فكرها، ولا تقدر على أن تقف في محفل من المحافل، فتقول: إنها تمثل حكومة هذا هو تدبيرها، أو هذه هي سياستها المعلنة، أو هذا هو نهجها في أرض تحتلها.
وليس من الظاهر أن رسالتها قد وصلته، ولو وصلته لكان قد خفف من تشدده الذي يواصله دون التفات إلى عواقبه، ولو وصلته لكان قد بحث عن شخص آخر يتولى وزارة الأمن بخلاف إيتمار بن غفير، الذي يتباهى بتشدده كما لا يتباهى أحد بشيء!
هذا كله لا ينفي حقيقة تقول بها طبائع الأشياء، وما تقوله طبائع الأشياء أن قوة هذه الحكومة المتغطرسة ليست قوة كامنة فيها في حد ذاتها، وإنما هي حكومة مستطيعة بغيرها. وغيرها هذا ليس في واشنطن ولا في عواصم أوروبا التي تنتصر لتل أبيب ظالمة ومظلومة، ولكنه في عجز الطرف الآخر على خط المواجهة معها، سواء كان طرفاً فلسطينياً أو عربياً، عن توظيف ما في حوزته من أوراق على المائدة.