علاقة الإنسان بكرسي السلطة لا تزال غامضة بقدر ما هي معقدة، ولا تزال تشغل علماء النفس الكبار، ومن الممكن أن تعود إلى كتاب مذكرات الدكتور أحمد عكاشة مثلاً، وستجد للرجل كلاماً مهماً في هذا الشأن.
ولا يمكن أن تتابع حالة عمران خان على سبيل المثال، ثم لا تجد نفسك في حاجة إلى تفسير يقدمه علماء النفس لهذه الحالة، ولغيرها طبعاً، ولكن حالته لا تزال هي الأحدث، ولا تزال تملأ العناوين في وسائل الإعلام، منذ أن غادر كرسي رئيس الوزراء في بلاده.
فهو كان نجماً لرياضة الكريكيت طول حياته، ولم تكن نجوميته في باكستان وحدها ولكنها كانت على مستوى العالم، ولم يكن هناك لاعب آخر ينافسه، وكان متحققاً في هذه الرياضة على أحسن ما يكون التحقق، وكان نموذجاً أمام شباب كثيرين في أنحاء الأرض.
ولكنه ما إن دخل الانتخابات وفاز بها، حتى وجدناه ينضم إلى الذين يقال عنهم إنهم «ذاقوا حلاوة السلطة» فلم يعودوا يعرفون كيف يفارقونها، ولا كيف يتجاوزون طعمها في أفواههم، ولا كيف يمكن أن يعيشوا بغيرها كما كانوا قبلها؟
عندما غادر عمران منصبه وجاء في مكانه شهباز شريف، لم يشأ أن يُسلّم بذلك، وعدّ أن الكرسي لا يزال من حقه، وأن الذي يشغله من بعده قد حصل عليه من دون وجه حق، ولذلك، لم ينشغل بشيء أبداً منذ أن فقد رئاسة الوزارة، إلا بالسعي إلى استعادتها بكل طريقة، ولم يهتم بما يمكن أن يصادفه على الطريق من نكسات، وراح يواصل السعي المحموم نحو العودة إلى السلطة من جديد.
كان يخرج من مشكلة مع الشرطة في بلده، ليدخل في مشكلات لا مشكلة واحدة، وكان لا يهدأ في سبيله إلى أن يعود كما كان رئيساً للحكومة، وقد انتهى به الأمر إلى أن يدخل السجن ثلاث سنوات، بعد أن ألقت الشرطة القبض عليه في مدينة لاهور، لأنه متهم بالكسب غير المشروع، ولأن عليه أن ينفذ العقوبة المقررة لذلك.
المشهد لمن يتابعه من أوله يشير إلى «شيء ما» في السلطة لا يراه الذي يجلس خارجها، ويؤشر على «شيء ما» كامن في الكرسي لا يشعر به غير الجالس عليه، وهذا ما تراه مجسداً في حالة عمران خان، وتراه في حالات أخرى طبعاً، لأن خان ليس فريداً من نوعه في هذه المسألة أمامنا.
ولا ينافسه في رغبته التي تسيطر عليه تماماً، إلا الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، الذي لما غادر البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021، تصرف وكأنه فقد الحياة نفسها، ولم يعد له همّ في الدنيا إلا أن يستعيد هذه الحياة التي فارقته، وإلا أن يدخل البيت الأبيض من جديد، وهو في سبيل هذا الهدف قد استخدم كل ما لديه من أسلحة، وقاتل ولا يزال كما لم يقاتل رجل في سبيل السلطة!
وكان مصطفى أمين قد قال ما أغضب منه مسؤولين كباراً في أيام الرئيس حسني مبارك، مع أنه لم يكن قد قال سوى ما نراه بأعيننا في حالة خان، وفي حالة ترمب من قبل خان، وأيضاً في حالة بنيامين نتنياهو من بعدهما، فالثلاثة لا ينطبق عليهم شيء بقدر ما ينطبق عليهم ما كان مصطفى أمين قد قال به ذات يوم.
كان قد قال إن المسؤول يفقد نصف عقله يوم يتولى منصباً، ثم يفقد النصف الثاني في اللحظة التي يغادر فيها المنصب.
يومها قامت الدنيا على صاحب عمود «فكرة» الشهير، وبلغ الغضب منه والسخط عليه إلى حد أن رأس الدولة المصرية وجّه إليه عتاباً علنياً شديداً على ما قاله، ولم يكن الغضب منه في محله، ولا كان السخط عليه في موضعه، لأنه كان يتحدث عن حالة إنسانية عامة، أكثر منها حالة مصرية خاصة، ولا دليل على ذلك إلا ما نراه في هذه الحالات الثلاث بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية، إلى الدولة العبرية، ثم إلى باكستان.
وقد بلغ تمسك نتنياهو بالسلطة وتشبثه بها، إلى حد غير مسبوق في تاريخ إسرائيل كله، وإلا، فهل هناك ما هو أشد تشبثاً من أن يقود «عملية إصلاحية» في القضاء، وأن يتقدم بتعديلات قانونية تضمن عدم خروجه من السلطة إلا إذا اعترف هو بنفسه، بأنه غير قادر جسدياً أو عقلياً على ممارسة مهام منصبه في رئاسة الحكومة؟
يعني لا يكفي أن يكون غير قادر على المستويين، ولكن لا بد من أن يعترف هو بهذا، وأن يُقر بعجزه على المستويين، أو على مستوى واحد منهما!
لم يكن عمران خان يبالي بما سوف يقابله في سعيه نحو استعادة الكرسي، ولم يكن يعرف أنه يمكن أن ينتهي حبيس جدران أربعة، ولكنه انتهى على هذا النحو، ولو خرج فالظاهر أنه سيستأنف السعي من جديد في ذات الاتجاه، ولا يختلف حاله عن حال ترمب، ولا عن حال نتنياهو، ولا شيء يفسر هذا كله سوى السر الكامن في الكرسي، والذي يبدو وكأن من شروط رؤيته أن تجلس بنفسك على الكرسي، لأنه لا يتجلى إلا للذين خاضوا الطريق للسلطة إلى نهايته، وإلا للذين ذاقوا حلاوتها على مقاعدها، فلم يعودوا يجدون حلاوة لشيء غيرها.
الثلاثة يرسمون ما يشبه الظاهرة في ثلاث دول، ويتصرفون في أماكنهم وكأنهم على موعد، وبغير سابق اتفاق بينهم.