بقلم: سليمان جودة
كان معاوية بن أبي سفيان هو الذي مد شعرة بينه وبين الناس، وكان يقول إنه يرخيها إذا شدوها، ويشدها من جانبه إذا أرخوها!
عاش الرجل على هذا المبدأ في النصف الأول من القرن الأول الهجري، وكان وقتها يؤسس للدولة الأموية في دمشق، وكان هذا المعنى يجسد مبدأه السياسي الأهم في التعايش مع المنافسين والمصارعين على الحكم، بقدر ما كان مبدأه في التعامل مع عامة الناس في الحياة اليومية.
ومن بعده بقي هذا المبدأ صالحاً في كل زمان ومكان، ولا يزيده مرور الوقت إلا صلاحية، وإلا قدرة على الاستمرار من عصر إلى عصر. وربما يكون السبب أن معاوية الذي أرساه كان داهية من دواهي العرب، وكان يضع مبدأه الشهير على أساس من فهم للنفس البشرية، وكان يدرك أن السياسة باعتبارها فناً من فنون القيادة في حياة الشعوب، إنما تستند إلى فعل «ساس»، ثم على فعل «يسوس»، وأن هذا الفعل في حالتيه يدعو إلى وجود هذه الشعرة في كل الحالات؛ لأن البديل هو الانقطاع بكل ما يأتي وراءه من تداعيات.
وتشعر وأنت تتابع حلقات الحرب الروسية على أوكرانيا، أن مبدأ معاوية هو المبدأ الحاكم في العلاقة بين الطرفين. والطرفان هما روسيا من ناحية، ثم الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها من الناحية الثانية، وليس الروس في مواجهة الأوكرانيين وحدهم.
ولا أدل على ذلك من أن هذه الحرب التي تدخل عامها الأول في الرابع والعشرين من هذا الشهر، لا تزال على مدى سنة كاملة تدور رحاها في أربع مناطق شرق أوكرانيا. وكان الظن عند بدء الحرب التي لا تزال روسيا تسميها عملية عسكرية، أن الجيش الروسي سوف ينهي الأمر في ساعات، وأنه سوف يجتاح الأراضي الأوكرانية بسهولة، وبغير أن تدوم الحرب أسابيع وشهور.
ولكن السنة الأولى تكاد تنقضي، بينما القوات الروسية لا تتقدم إلا لتتأخر، ولا تستولي على أرض في المناطق الأربع، إلا لتفقدها وتنسحب منها بعد بقليل.
ولا سبب في هذا سوى أن الجيش الأوكراني واجهة أمامنا في الحرب، أكثر منه جيشاً يواجه الجيش الروسي بمفرده، وهو واجهة لأن واشنطن تقف وراءه بالعتاد والسلاح، ومعها بروكسل؛ حيث مقر الاتحاد الأوروبي، ومعهما حلفاء العاصمتين على امتداد الكوكب، وترى موسكو ذلك وتعاينه في كل اللحظات، ولأنها تراه وتعاينه فهي تحرص على أن تكون شعرة معاوية ممدودة على الرغم من ذلك، وألا تنقطع.
وعندما طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبادرته للسلام، طرحها عن وعي بهذه الحقائق على الأرض، وكان وعيه واضحاً في حديثه يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي مع محطة «روسيا 1» عن أنه يطرح المبادرة رغبة منه في التفاوض مع «كل أطراف الصراع الأوكراني». وكان معنى ذلك أنه يعرف أنه يخوض حرباً مع أطراف لا مع طرف، وأن الطرف المباشر الذي أمامه ليس هو وحده الذي يحاربه.
وفي الغالب لم يكن يطرح مبادرته إلا عن رغبة خفية لديه، في أن تبقى شعرة معاوية ممدودة بينه وبين الأطراف التي تحاربه، فلا تنقطع، وكان السبب ولا يزال أنه أدرى الناس بعواقب انقطاعها.
وفي يوم الجمعة الماضي، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يتحدث خلال حفل استقبال أقامه في قصر الإليزيه، وكانت المناسبة هي بدء السنة الجديدة بالتقويم القمري، وكان مما قاله إنه سيظل يتحدث مع العاصمة الروسية كما تحدث معها من قبل، وأنه سيمضي في فعل ذلك على الرغم من الانتقادات التي يتلقاها. وعندما عاد إلى الحديث عن إمداد أوكرانيا بطائرات فرنسية، قال ما معناه أن هذا وارد وأنه ممكن، ولكن بشرط ألا تهاجم هذه الطائرات الفرنسية أرضاً روسية.
وقبل حديثه بساعات، كانت آن كلير لو جندر، المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية، تقول ما هو أوضح في نبرته من حديث الرئيس. وكانت وكالة الأنباء الفرنسية تنقل عنها قولها إن فرنسا ليست في حالة حرب مع روسيا، وأن شركاء فرنسا مثلها في هذا الشأن، وأن قرار الحكومة الفرنسية إرسال سلاح إلى الأوكرانيين شيء، وما تتكلم هي فيه شيء آخر تماماً؛ لأن هذا السلاح ليس إلا على سبيل الدفاع المشروع من جانب أوكرانيا عن نفسها.
وما قالته لو جندر ثم قاله ماكرون من بعدها، لا يمكن فهمه إلا على أساس أنه حرص فرنسي على أن تبقى شعرة معاوية ممدودة مع روسيا.
وهو ليس حرصاً فرنسياً فقط، ولكنه حرص أوروبي في الإجمال، وهذا ما كانت تعنيه متحدثة الخارجية وهي تتكلم عن شركاء بلادها وحلفائها، فالفرنسيون يعتبرون أنفسهم قادة الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي، والرئيس الفرنسي يعتبر أنه تسلم لواء القيادة في القارة العجوز من المستشارة أنجيلا ميركل التي فضلت أن تغادر دار الاستشارية طواعية، في نهاية السنة قبل الماضية.
ولأن الفلسفة البراغماتية فلسفة أميركية في منشئها، فالأميركيون يتعاملون مع الروس في الحرب بمنطق براغماتي عملي مجرد، ولا تحصل كييف على سلاح من واشنطن، إلا بقدر ما يجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها، وفي كل المرات التي طلب الأوكرانيون فيها سلاحاً هجومياً، كانت الولايات المتحدة لا تستجيب، وكانت تقول إن السلاح منها هو للدفاع لا للهجوم.
وكانت الصواريخ الأميركية التي تحصل عليها أوكرانيا من نوع محدد، وهو نوع لا يذهب في مداه إلى ما هو أبعد من منطقة الحدود الروسية الأوكرانية بكثير. وعندما عرضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إقامة منطقة منزوعة السلاح على الأراضي الأوكرانية المحاذية للحدود مع روسيا، قال بايدن في المقابل إنه لن يرسل طائرات «إف 16» إلى أوكرانيا.
وكان ذلك من قبيل الحرص على امتداد شعرة معاوية بين واشنطن وموسكو، وكان على سبيل الحرص المتبادل بينهما على أن تبقى ممدودة وعلى ألا تنقطع، وكان معنى ذلك أن مبدأ معاوية الذي أسعفه في القرن الأول الهجري، لا يزال يسعف الذين يعملون به في القرن الخامس عشر من الهجرة، ولا يزال يصلح في الإبقاء على الحد الأدنى من العلاقات بين الدول، وكذلك بين البشر.
وعلى الرغم من أن ألمانيا أمدت أوكرانيا بدبابات «ليوبارد 2»، وعلى الرغم من أن هذه الخطوة قد أزعجت الروس كثيراً، فإنها لم تمنع المستشار الألماني أولاف شولتس من الإعلان عن أن التواصل الهاتفي مع بوتين ضروري، وأنه تواصل لا بد من أن يستمر، ويجب ألا يتوقف.
ولم يشأ الرئيس الروسي أن يرد على هذا العرض بالتواصل من جانب شولتس بالرفض، فقال ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، إن بوتين كان ولا يزال مستعداً لإجراء اتصالات. وهكذا نجد أنفسنا أمام مشهدين فيهما كثير جداً من التفاصيل على الجانبين، ولكن التفصيلة الأهم هي الحرص المتبادل على أن تمتد شعرة معاوية بينهما، وعلى ألا تنقطع.
وفي ساعة من ساعات الزهق والضيق، كان سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، قد قال إن الغرب يواصل استفزاز روسيا من خلال إمداد الأوكرانيين بالدبابات الأميركية والأوروبية المتطورة، وإن هذا سيصل ببلاده إلى لحظة لا تستطيع فيها مجاراة السلاح التقليدي الغربي، وإن ذلك يمكن أن يدفعها إلى استخدام السلاح النووي باعتباره الحل الأخير.
وعلى الرغم من أن حديث لافروف يحمل تهديداً من حيث الشكل، فإنه يحمل في المقابل رغبة خفية في ألا تنقطع شعرة معاوية بين الجبهتين؛ لأن الوزير الروسي أول من يعرف أن الخيار النووي غير مطروح على جبهته ولا على الجبهة الأخرى، وأن السبب هو أن السلاح النووي سلاح تدمير متبادل.
ما أعجب هذه الشعرة التي بدأ بها معاوية بناء الدولة الأموية، فدامت الدولة مائة سنة، وما أقدر تلك الشعرة على أن تظل بصلاحيتها ما يقرب من 15 قرناً فلا تفقدها.