بقلم - سليمان جودة
يتابع كل واحد منّا في مكانه ما تذكره وسائل الإعلام عن إصابات متحور «كورونا» المسمى «أوميكرون»، فلا يكاد يصدق ما يقال من أرقام يتصاعد منحناها كل صباح!
فمنذ بدء الفيروس إلى يوم ظهور هذا المتحور الجديد، كانت الإصابات على مدى ما يقرب من العامين تُعد بالعشرات، والمئات، ثم صارت بالآلاف، ولم تكن تتجاوز ذلك إلا في القليل النادر، ولكنها هذه المرة تقفز بمئات الآلاف في اليوم الواحد. ومع ذلك فهناك فارق واضح تماماً بين رد فعل العالم في الحالة الأولى، التي سبقت «أوميكرون»، وبين رد فعله في الحالة الثانية التي جاءت بعد شيوع هذا المتحور.
وهو فارق يمكنك معه أن تقول إن أهل الاختصاص سيؤرخون لاحقاً لمسيرتنا مع «كورونا» على أساس أن في هذه المسيرة مرحلتين؛ مرحلة ما قبل «أوميكرون»، ثم مرحلة ما بعد «أوميكرون».
ولا بد أن نظرة شاملة على مسار «كورونا» من بدايته إلى اليوم ستقول لنا إن العالم ينتقل من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية متسلحاً بشيء واحد، هو الذي ميّز ولا يزال يميّز رد الفعل هنا في الحالة الثانية، عنه في الحالة الأولى هناك.
لم يكن هذا الشيء هو اللقاحات المضادة للوباء، كما قد يبدو الأمر عند الوهلة الأولى، مع ما لهذه اللقاحات طبعاً من دور حاسم في مواجهة الفيروس. وكيف لا يكون لها هذا الدور بينما الدكتور أنتوني فاوتشي، كبير مستشاري الرئيس جو بايدن، يقول إن الولايات المتحدة يمكنها رغم ضخامة الأعداد المصابة فيها، أن تعود إلى ممارسة حياتها بشكل طبيعي الشهر المقبل؟!
ولم يكن هذا الشيء للمرة الثانية هو الكمامات التي لم تعد تفارق وجوه الناس إلا قليلاً، والتي أصبحت جزءاً من ملامح الإنسان في هذا العصر، والتي صارت شرطاً لدخول أي شخص إلى أي مكان مغلق في أي مكان في أنحاء الأرض!
صارت الكمامة جزءاً لا يتجزأ من ملامح الإنسان في هذا العصر إلى حد أنك يمكن أن تُسأل عنها عند وجودك على باب المؤسسات الحكومية أو غير الحكومية، ولا تُسأل في الوقت نفسه عن بطاقتك الشخصية، ولا حتى عن اسمك، أو عمّا تريده داخل المكان.
وللمرة الثالثة لم يكن هذا الشيء الذي يمثّل سلاح العالم ضد «أوميكرون» هو المطهرات التي تحولت بدورها من شيء كنا نسمع عنه في حالات الجروح المفاجئة أو الحالات الصحية الطارئة، إلى شيء تراه أمامك فتسارع من تلقاء نفسك إلى استخدامه في كل مكان تقريباً.
ولا كان هذا الشيء للمرة الرابعة هو تحليل «بي سي آر» الذي لم يعد في مقدور إنسان صعود الطائرة إلى أي جهة في العالم إلا إذا كان هذا الـ«بي سي آر» حاضراً في يده، شأنه شأن جواز السفر رأساً برأس، وربما يسألك موظف المطار عن الـ«بي سي آر» الخاص بك قبل أن يطلب منك جواز سفرك، مفترضاً بالطبع أن وجود جواز السفر قضية مفروغ منها!
إنني أكاد ألمح قارئ هذه السطور وهو يخمّن أن السلاح الذي أقصده لا بد أن يكون شهادة التطعيم الإلكترونية، وإلا فماذا يكون هذا السلاح إذا لم يكن هو اللقاح ذات نفسه، وإذا لم يكن الكمامة، وإذا لم يكن المطهر الذي تفرك يديك به بمناسبة ومن دون مناسبة، وإذا لم يكن الـ«بي سي آر»؟!
أكاد ألمح قارئ السطور وهو يخمّن ذلك بعد أن رأى أني قد استبعدت كل ما كان يجول في خاطره من الأشياء التي تصلح سلاحاً في يد العالم فتجعل تعامله هذه المرة مع «كورونا» مختلفاً عمّا كان منه من قبل مع الفيروس نفسه عند بدء ظهوره.
ولست أقلل من اللقاح، ولا من شهادته الإلكترونية، ولا من الكمامة، ولا من المطهرات، ولا من الـ«بي سي آر»، إذا قلت إن السلاح الذي أقصده هو شيء آخر من كلمة واحدة هي: التجربة!
نعم يدخل العالم بإحدى يديه في حرب جديدة مع المتحور المراوغ، بينما اليد الأخرى تحمل سلاحاً اسمه التجربة التي خضنا بها معركتنا مع «كورونا» عند ظهوره للمرة الأولى!
ومن الممكن أن تتجسد التجربة كعملية مكتملة في كل هذه الأسلحة، التي استعرضتها معاً من جانبي سلاحاً سلاحاً ثم استبعدتها في ذات الوقت، ولكن التجربة كعملية معنوية مكتملة شيء، بينما هذه الأسلحة المادية منفردة أو حتى مجتمعة شيء آخر تماماً.
وإذا شئنا الدقة قلنا إن اللقاح، مع شهادته الإلكترونية، مع الكمامة، مع المطهر، مع الـ«بي سي آر»، كلها أسلحة ظاهرة في المواجهة العالمية مع المتحور الجديد، أما التجربة فهي السلاح الخفي غير الظاهر الذي يجعلنا نتواجه مع «أوميكرون» ونحن على معرفة مسبقة بأرض المعركة، وحدودها، ومعالمها، وطبيعة تضاريسها التي علينا أن نأخذها في الحسبان.
وإذا شئنا الدقة أكثر لكان علينا أن نقول إن ما أقصده بسلاح التجربة الخفي هنا، هو بالضبط الشيء الذي يميّز الإنسان عن بقية الكائنات على ظهر هذا الكوكب، إذا ما خاض معركة ثم كان عليه أن يوظف رصيده منها في معركة أخرى.
فلولا رصيد التجربة التي تراكمت لدينا من المواجهة الأولى، لكان العالم قد مات رعباً قبل أن يموت فعلاً، وهو يسمع ويقرأ مع مطلع كل نهار أن إصابات بريطانيا مثلاً تتجاوز المائتي ألف في اليوم الواحد، وأن إصابات فرنسا مثلها، وأن إصابات أميركا تماثل إصابات البلدين معاً!
التجربة في النهاية هي التي تجعل سكان الأرض يدخلون إلى الجولة الثانية مع الوباء وهم مزودون بما اكتسبوه من مهارات التعامل معه في الجولة الأولى، وهذه المهارات هي ملخص التجربة باختصار، لأن هناك فرقاً بالتأكيد بين أن تواجه عدواً في جولة أولى، وبين أن تواجهه هو نفسه في جولة ثانية يأتي فيها متخفياً بقناع فوق وجهه على سبيل الخداع لا أكثر!
هذا الخداع على وجه التحديد هو ما يقول علماء الفيروسات إن متحور «أوميكرون» يمارسه عندما يتعامل مع جهاز المناعة في الجسم.
التجربة هي وحدها التي تجعلنا شبه مطمئنين، ونحن نواجه عدواً واجهناه في الجولة الأولى بعمليات شاملة من الإغلاق وحظر التجول، فلا نلجأ في الجولة الثانية معه إلى الحظر، ولا إلى الإغلاق، وإلى سواهما مما يشبههما، لا لشيء إلا لأن رصيد التجربة حاضر في المواجهة هذه المرة.
رصيد التجربة هو السلاح الخفي الذي يجعلنا نواجه الفيروس هذه المرة على ملعبنا، بعد أن واجهناه في المرة السابقة على ملعبه، مع ما هو معروف من أن الأرض تلعب مع فريقها، إذا ما جاز أن نستعير مفردات أو مصطلحات الملاعب في كرة القدم!
لقد واجهنا «كورونا» في نسخته الأولى على أرضه فلعبت معه، ولكننا نواجهه هذه المرة على أرضنا التي تلعب معنا، لأن هذا ما يقول به قانون التجربة في حياة البشر!