أعجبني أن تحتفل وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية بالشاعر حاتم الطائي، وأن يدعو الأمير بدر بن عبد الله، وزير الثقافة والآثار السعودي، إلى مهرجان يحمل اسم الطائي في مدينة حائل الواقعة إلى الشمال من منطقة نجد.
أعجبني ذلك لأن الحفاوة في حالة كهذه، ليست حفاوة بالشاعر الشهير في حد ذاته، ولكنها حفاوة بالقيم العربية التي عاش ومات عليها، ثم هي حفاوة بالشعر الذي عاش يقرضه ويشتهر به في أنحاء الجزيرة، وفي خارجها كذلك على السواء.
فلا يزال حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي نموذجاً للكرم في حياتنا، ولم نعرف أحداً ينافسه في الكرم ولا في السخاء مع الناس، ولا نزال كلما أردنا أن ندلل على كرم زائد على المعتاد، لا نجد غير الطائي نضرب به المثل، ولا نزال نستدعي اسمه هو لا اسم عائلته، فنتحدث في المناسبات التي تمتلئ بالولائم عن كرمٍ حاتميّ بالتحديد. ونحن نفعل ذلك رغم أنه عاش في القرن السادس الميلادي، ورغم حياته البعيدة التي كانت قبل الإسلام وبعده، ورغم كل هذه القرون من الزمان التي مرت وانقضت على رحيله عن الدنيا.
ومن سيرته نفهم أنه كان في الكرم من نوع الرجل الذي أشاروا إليه في زمن آخر فقالوا إنه: إذا سُئل جاد بروحه فليتقِّ اللهَ سائلُه.
ولم يكن حاتم الطائي بلا منافس في الكرم فقط، ولكنه برع كذلك في الشعر، بمثل ما برع في الفروسية، وكان في الميادين الثلاثة مثالاً للرجل يجيد ما يفعله فلا يسبقه إليه أحد، ولكن الكرم عنده قد غطى طبعاً على ما سواه من الخصال، ربما لأن الطائي قدم فيه ما لم يقدمه أحد سواه، وأثبت في مجال الجود أنه بلا نظير، وأن كل الذين أعطوا في سخاء كانوا تلاميذ في مدرسته التي أسس لها.
كان أبو الطيب المتنبي شاعراً، بمثل ما كان الطائي شاعراً، وكلاهما كان فارساً، ولا نزال نحفظ بيت الشعر الشهير الذي قاله المتنبي في نفسه، وتفاخر فيه بخصاله الكثيرة، وكانت الفروسية من بين هذه الخصال، ولكنّ الكرم لم يكن من بينها.
وقد مات المتنبي وهو يردد بيت الشعر الذي نحفظه، لأنه لم يقبل أن يفاخر فيه بفروسيته ثم يلوذ بالفرار في لحظة المواجهة مع العدو، ولكن الطائي في المقابل مات وهو على الكرم لا يغادره، ولا بد أنه بما مات عليه كان يرسخ قيمة عربية أصيلة بيننا.
ولو أنت تأملت الخصلتين الأخريين فيه، وهما الشعر والفروسية، فسوف تكتشف فيهما الكرم على نحو آخر، وسوف ترى في الفروسية جوداً على وجهٍ من الوجوه، وفي الشعر كرماً على معنى من المعاني، لأن الفارس يتقدم الناس في الميدان، وهو عارف بأنه قد يقدم روحه التي هي أغلى ما عنده، ولأن الشاعر يخرج على الناس إذا قال شعراً بخلاصة ما في وجدانه، فيقوله بغير أن ينتقص منه أي شيء.
فإذا كان الذي سيفعل ذلك هو حاتم الطائي المعروف بالكرم، فلن يختلف الجود عنده في الفروسية عنه في البذل للناس، ولن يتغير العطاء عنده في الشعر والقصيدة عنه في الفروسية ولا في الكرم، وفي الحالات الثلاث سيكون هو الرجل يتقن ما يحبه، ويحب ما يتقنه، ولا يبادر إلى الآخرين من حوله إلا بما يسعد ويبهج في كل خصلة من خصاله الثلاث.
هذا كله مهم، ولكن ما هو أهم منه شيئان؛ أحدهما أن المهرجان اختار حائل ليقام فيها، وكان اختيارها له ما يبرره لأن المدينة كانت مسقط رأس حاتم وكانت الملعب الذي شهد حياته. أقول ذلك لأنه من الضروري أن يعرف المتابعون لأخبار مثل هذا المهرجان أن في البلد الكثير من المدن الكبرى الأخرى بخلاف الرياض وجدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة، وأن في تلك المدن الأخرى ما يستحق أن يتابعه المهتم ويشاهده.
هذه مسألة مهمة بوجه عام، لأننا اعتدنا أن تستحوذ العواصم في بلادنا العربية على كل شيء في الغالب، ولأننا عشنا نرى عواصمنا تستأثر في الغالب أيضاً بالكاميرات والعدسات والأضواء، ولأنها لا تكاد تترك شيئاً لغيرها من المدن على اتساع البلد وامتداده.
والشيء الثاني أن المهرجان ليس حدثاً معلقاً في فضاء، ولكنه لمن يطالع تفاصيله جزء من برنامج «جودة الحياة» الذي يرتبط هو الآخر بـ«رؤية المملكة 2030»، ويمثل واحداً من بين برامج متعددة فيها.
فالطابع الاقتصادي يغلب على هذه الرؤية المعلنة من سنوات، ولكن طابعها الذي اشتهرت به لا يمنع أن تكون لها خطوط عمل أخرى، ولا يمنع أن يكون المكون الثقافي جزءاً عضوياً فيها، ولا أن يسعى هذا الجزء في محصلته الأخيرة إلى تحقيق أهدافها في مجملها.
والمعنى أن ما أعلنته وزارة المالية في الرياض عن حجم ما حققته المملكة من الإيرادات غير النفطية في الأشهر الثلاثة الأولى من هذه السنة، يمكن فهمه في ضوء طبيعة مهرجان حاتم الطائي، الذي لا ينفصل عن «رؤية 2030»، ولا هي تغرِّد بعيداً عنه في سماء أخرى.