بقلم :سليمان جودة
أهمية البيان الذي صدر عن لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الليبي ضد السفيرة البريطانية هناك، أنه يكشف عن أن تأجيل الانتخابات الليبية في اللحظات الأخيرة كان وراءه ما وراءه مما لا نعرفه، وبالطبع مما سنظل لا نعرفه إلى حين إجرائها حين تجري!
الانتخابات كان مقرراً لها منذ مارس (آذار) الماضي، عندما تشكلت حكومة الوحدة الوطنية الحالية، أن تجري في الرابع والعشرين من هذا الشهر على المستويين الرئاسي والبرلماني معاً... ولكنها تأجلت في اللحظة الأخيرة إلى الرابع والعشرين من الشهر المقبل... وحتى هذا التاريخ ليس مؤكداً إلى اليوم، فلا يزال حوله كلام، ولا تزال مفوضية الانتخابات في حاجة إلى تأكيده.
وما كادت الانتخابات تتأجل حتى اشتعل الجدل حول مصير الحكومة الحالية التي تحكم برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وما إذا كانت ستستمر إلى حين إجراء الانتخابات في موعدها الجديد، أم أن حكومة جديدة ستأتي في مكانها؟!... لقد ثار جدل واسع بين الليبيين عما إذا كان من حق حكومة الدبيبة أن تستمر في مقاعدها إلى يوم 24 ديسمبر (كانون الأول) وفقط، أم إلى أن تجري الانتخابات أياً كان موعدها؟
لكل وجهة نظر من هاتين الوجهتين فريق يراها ويميل إليها، وكل فريق من الفريقين عنده ما يبرر وجهة نظره قانونياً وسياسياً... والقضية في النهاية شأن ليبي مجرد، ولا دخل لأحد به سوى أصحاب القضية أنفسهم، الذين عليهم أن يحسموا الجدل في النهاية لصالح إحدى الوجهتين.
ولكن فجأة خرجت السفيرة البريطانية فقالت في بيان منسوب إلى سفارتها، إنها تؤيد بقاء حكومة الدبيبة في الحكم إلى يوم إجراء الانتخابات، وإنها لن تعترف بسواها إلى أن تنعقد الانتخابات... وما كاد هذا الكلام يقال نقلاً عن السفيرة والسفارة، حتى قامت الدنيا ضدهما في ليبيا ولم تقعد بعد، وحتى أصدرت لجنة الشؤون الخارجية بيانها الغاضب المشار إليه، وحتى انطلقت دعوات ليبية بطردها من البلاد!... ولم يتوقف الغضب عند هذا الحد، ولكنه أخذ مستوى آخر، وكان ذلك عندما اجتمع مجلس بلديات فزان في الجنوب الليبي داعياً السلطات الليبية إلى طرد السفيرة.
وقد كانت السفيرة ستيفاني ويليامز، المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، أكثر حكمة من السفيرة البريطانية، وأكثر قدرة على اختيار كلماتها، فقالت، إن الانتخابات ومعها ترشح سيف الإسلام القذافي أو عدم ترشحه شأن ليبي خالص يجب احترامه.
صحيح أن موقف السفيرة ويليامز من خروج الميليشيات من الأراضي الليبية موقف غامض، وملتبس، وغير مفهوم في مجمله، ولكن هذا موضوع آخر على كل حال، فملف الميليشيات بطبيعته يبدو أعقد مما قد يظهر عليه أمام العين المجردة؛ لأنه في حقيقته ملف إرادات دول متداخلة في القضية الليبية كلها، أكثر منه ملف ميليشيا هنا، أو ملف مجموعة من المرتزقة هناك.
ولا بد أن السفيرة البريطانية التي لا يزال الغضب يتصاعد ضدها، كانت في حاجة إلى أن تدرك أن زمن الاحتلال البريطاني لإقليم من أقاليم البلد الثلاثة انتهى وانقضى، وأن من مقتضيات وجود السفير... أي سفير في أي بلد... أن يحترم مشاعر الناس في البلد الذي يمثل حكومته فيه، وألا يستفزهم بعبارات غير محسوبة من نوع ما صدر عنها.
وقد مضى الغضب ضد حديث السفيرة إلى مدى أبعد، عندما قال المتحدث باسم مجلس النواب الليبي في بيان صادر عنه، إن المجلس يعتبر السفيرة «شخصاً غير مرغوب فيه»، وإنه سيخاطب وزارة الخارجية في هذا الشأن لتتخذ ما تراه مناسباً، باعتبارها الوزارة المسؤولة في مثل هذه الحالة.
ومعنى ذلك أن الأمر صار في عهدة السيدة نجلاء المنقوش، وزيرة الخارجية في حكومة الدبيبة، وصاحبة المواقف المشهود لها في ملف الميليشيات والمرتزقة بالذات.
وفي الأعراف الدبلوماسية تعرف الدول مصطلح «شخص غير مرغوب فيه» ويعرف الشخص الذي يوصف هكذا بأن عليه أن يغادر البلد الذي يمثل بلاده فيه، وفي العادة فإنه يغادر خلال فترة زمنية تحددها وزارة الخارجية وتعلنها. وفي الغالب فإن هذا الشخص يكون سفيراً كحالة السفيرة البريطانية، ولا يكون أمامه سوى الامتثال، والتنفيذ، والمغادرة!
ورغم أن خمس حكومات غربية أعلنت في بيان لها، أنها تفضل بقاء حكومة الوحدة الوطنية إلى حين إجراء الانتخابات، ورغم أن ما أعلنته الحكومات الخمس لا يختلف كثيراً عما أعلنته السفيرة والسفارة البريطانية، فإن الحكومات الخمس كانت أقرب إلى الدبلوماسية وهي تصوغ موقفها وتعلنه، وكان دليل ذلك أنها راحت تؤصل لما تراه وتعيده إلى مؤتمر باريس الأخير حول ليبيا كمرجعية يستند إليها موقفها.
وهذا ما لم تعمل السفيرة على مراعاته، رغم أنها سفيرة محترفة ومعتمدة، وبالتالي فقد كانت مدعوة إلى أن تتصرف وتتكلم وفق ما يقتضيه موقعها، وحسب ما تقضي به مهنتها التي تقوم على مبادئ مستقرة بين العواصم لا يجوز دبلوماسياً القفز فوقها!
في لغتنا العربية نتحدث دائماً عن الكلام الذي على قائله أن يوافق به مقتضى الحال، وهذا بالضبط ما كان الليبيون ينتظرونه من السفيرة البريطانية، وما ينتظرونه من كل سفير غيرها يمثل بلاده عندهم في هذه المرحلة الدقيقة من مراحل السياسة في ليبيا؛ لأنه بغير أن يوافق الكلام مقتضى الحال، سيجد الدبلوماسي أنه في موقف لا يختلف عن الموقف الحرج الذي تجد سفيرة الملكة أنها في مواجهة معه، سواء على مستوى الناس في ليبيا عموماً، أو على مستوى مجلس بلدية فزان، أو على مستوى برلمان منتخب يمثل الناس!
وليس بيان السفارة البريطانية الذي وصلت تداعياته إلى هذا الحد، سوى إشارة إلى أن على كل الذين يمثّلون بلادهم من السفراء في طرابلس الغرب، أن يحترموا إرادة الليبيين في الذهاب إلى عملية انتخابية ديمقراطية لاختيار ما يرونه أنسب للحكم في البرلمان وفي الرئاسة.
قد يقال أن الديمقراطية ليست مجرد صندوق اقتراع، وهذا صحيح بنسبة مائة في المائة، فما يسبق الصندوق ذهاباً إليه يظل أهم منه، وما يتبعه يبقى استكمالاً لمدى صواب ما كان قبله، ولكن هذا كله لا يتحقق بغير مبدأ التجربة والخطأ الذي هو مدرسة الشعوب في هذا الباب!
وإذا كان ونستون تشرشل هو صاحب العبارة التي تقول، إن الديمقراطية ليست النظام الأفضل في الحكم، وإنها فقط أفضل الأسوأ مما توصل إليه العالم في نُظم الحكم، فهي عبارة صحيحة كل الصحة، وإلا، فما معنى أن يطاح برأي تسعة وأربعين في المائة من الأصوات في الصندوق، ويؤخذ برأي واحد وخمسين في المائة من الأصوات الصحيحة فيه؟ يحدث هذا علناً في أي عملية انتخابية، فيؤخذ برأي مجموعة ولا يوضع لرأي مجموعة في المقابل أي حساب؟!
هذا ما تقضي به العملية الديمقراطية، منذ أن كانت على الأرض ديمقراطية يجري الحكم وفق ما تقوله مبادئها المستقرة حتى اليوم، وسوف يظل الناس يخضعون لحكم هذه الديمقراطية غير العادلة، إلى أن يصل فلاسفة العلوم السياسية لنظام يكون أفضل منها في تمثيل كل الآراء في الصندوق، لا تمثيل جزء من الآراء، حتى ولو كان الجزء الذي يؤخذ به يمثل الغالبية من المقترعين.