بقلم - سليمان جودة
في حديثه مع مجلة «ذي أتلانتيك» الأميركية الصادرة 3 من الشهر الحالي، سُئل الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، عن العلاقات الخليجية المتنامية مع إسرائيل فقال: نأمل أن تُحل المشكلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين... لا ننظر إلى إسرائيل كعدو، بل كحليف محتمل في كثير من المصالح التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معاً، لكن يجب أن تُحل بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك.
وهذا موقف واضح على أفضل ما يكون في علاقة المستقبل بين الرياض وتل أبيب، كما أنه موقف يقول بوضوح كامل إنها علاقة مشروطة من جانب المملكة، وإن شرط قيامها علاقة طبيعية في حينها هو شرط معلن وليس سراً من الأسرار.
وعندما تعيد قراءة كلام ولي العهد في هذه المسألة بالذات، ستكتشف أنه يقوم على موقف ليس وليد اليوم، وأن له خلفية سياسية قديمة بالوضوح نفسه، وأن هذه الخلفية تعود إلى 14 فبراير (شباط) 1945، عندما التقى الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على ظهر البارجة كوينسي في البحيرات المُرة بقناة السويس.
يومها كان الملك المؤسس قادماً من جدة إلى البحيرات المرة، وكان قد انتهى من تدعيم قواعد المملكة، وكان الرئيس الأميركي قادماً من يالطا، حيث كان يؤسس لعالم ما بعد الحرب الثانية، وكان يرغب في التأسيس لعلاقة تدوم بين بلاده وبين السعودية.
ولم تكن إسرائيل قد قامت بعد كدولة، وكان اليهود في أنحاء العالم يبحثون لهم عن أرض بعد أن تعرضوا لما تعرضوا له على يد هتلر في ألمانيا!
كانت منطقة القرم في روسيا السوفياتية مرشحة لأن تكون وطناً لهم، وهذا واضح في كتابات كثيرة تتعرض لما كان يجري من سياسات في تلك الأيام، ولكن السوفيات بطريقة معينة نجحوا في صرف نظر اليهود عن القرم، وربما كان ثمن الإبعاد عن القرم، أو عربون الإبعاد إذا جاز التعبير، هو أن الاتحاد السوفياتي السابق سارع فيما بعد إلى الاعتراف بالدولة التي قامت في 15 مايو (أيار) 1948، وكان أول دولة تعترف رسمياً بالدولة الجديدة بعد قيامها بثلاثة أيام، أما الاعتراف الأميركي بها فكان اعترافاً عملياً «دي فاكتو» أكثر منه اعترافاً رسمياً!
وفي مرحلة من المراحل كانت أوغندا مرشحة لاستضافة اليهود الباحثين عن أرض تقوم عليها دولة وليدة، ولكنّ أسباباً كثيرة صرفت النظر عن أوغندا هي الأخرى، وكان لا بد من استئناف رحلة البحث عن أرض بديلة تقوم عليها دولة كانت لا تزال في رحم الغيب!
وقد وقع الاختيار على أرض فلسطين، بديلاً عن القرم الواقعة في الشمال من البحر الأسود، وعن أوغندا التي تقع في القلب من القارة السمراء!
وكان لا بد من رحلة أخرى موازية، بخلاف رحلة البحث عن أرض مناسبة، وكانت هذه الرحلة الأخرى الموازية في اتجاه جس النبض لدى أهل المنطقة في أرض العرب، ليرى وكلاء الدولة الباحثة عن أرض، ما إذا كان الذين ستقوم هذه الدولة بينهم سوف يجدون مكانها المختار مناسباً في موضعه، أم أن لهم رأياً آخر لا بد من الاستماع إليه، ولا بد من الإنصات إلى مبرراته، ودوافعه، وفرضياته، وأسانيده التي يتكئ عليها.
وكان سعي الولايات المتحدة إلى لقاء البارجة كوينسي هو من نوع هذه الرحلة الموازية، ففي وسط الحديث الذي دار بين الملك المؤسس وبين روزفلت، سأله الرئيس الأميركي عما يراه في فكرة إقامة وطن قومي لليهود فوق أرض فلسطين، وبمعنى آخر كان السؤال عن رأي الملك عبد العزيز في الفكرة التي تقول بتعويض اليهود عما تعرضوا له على أيدي النازيين.
وكان تقدير الملك المؤسس أن تعويض اليهود عما تعرضوا له مسألة واجبة لا شك في ذلك، وأنه لا يناقش في التعويض من حيث المبدأ، ولكنه استدرك سريعاً ليقول بوضوح لا لبس فيه ما معناه، إن التعويض لا بديل عن أن يكون من جيب الذين ارتكبوا ما ارتكبوه في حق اليهود، لا من أملاك وأرض الفلسطينيين الذين لا ذنب لهم في الموضوع من أوله إلى آخره.
وكان الرئيس الأميركي ينصت ثم يعود طوال الحديث ليجادل في الأمر، وكان رأي الملك عبد العزيز واضحاً بما يكفي، وكان وضوحه الكافي هو في أن مبدأ التعويض الذي جاء روزفلت يتحدث فيه أمر لا خلاف عليه، وأن الخلاف هو فقط حول الجهة التي سيكون عليها أن تتحمل التعويض.
ولم يفلح الرئيس الأميركي في زحزحة الملك عن رأيه بوصة واحدة، وغادر البحيرات المرة وهو عارف بأن رأي الرياض في القضية المعروضة واضح جداً، وأنه رأي موضوعي تماماً، وأن موضوعيته هي في أن صاحبه ليس ضد التعويض كمبدأ جاء روزفلت يتكلم فيه، وأن الموقف السعودي ضد أن يكون التعويض على حساب شعب لم يكن طرفاً فيما نال اليهود على أرض الألمان.
وعند المقارنة لن تجد فرقاً بين ما قاله ولي العهد الحفيد، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبين ما قاله الملك الجد في العقد الخامس من القرن العشرين، فموقف الحفيد نابع من موقف الجد وقائم عليه، وكلا الموقفين يريد العدالة في معالجة القضية، ويريد الإنصاف عند النظر فيها، ويريد ألا يقع ظلم أو إجحاف على طرف دون طرف عند وضعها على الطاولة. وعندما جرى طرح المبادرة العربية في بيروت على يد الملك عبد الله بن عبد العزيز، وقد كان وقتها ولياً لعهد الملك فهد، يرحمهما الله، فإن مبادرته لم تخرج عن الخط الذي سار عليه الأب، بمثل ما إن حديث الحفيد لم ينحرف عن منهج الجد.
كان ذلك في عام 2002، وكانت القمة العربية منعقدة في تلك السنة في العاصمة اللبنانية، وكانت المبادرة مطروحة عليها، وكان اعتماد المبادرة منها يعني أنها تحولت من مبادرة سعودية إلى مبادرة عربية تحظى بتأييد 22 عاصمة عربية حضرت ووافقت.
وكان مبدأ المبادرة بسيطاً بقدر ما كان مركباً، وكان يقول إن التطبيع ممكن ليس فقط بين دول الجوار وبين إسرائيل، وإنما بين الدول العربية كلها وبين تل أبيب، ولكن بشرط أن تكون الأرض من جانب الدولة العبرية في مقابل السلام الذي ستحصل عليه.
وقد مضت عشرون سنة على المبادرة، بدون أن تأخذها إسرائيل على محمل الجد، ومن دون أن تبادل أصحابها العرب جدية بجدية مماثلة!
وعلى ما ذكره ولي العهد في حديثه مع المجلة الأميركية، قال الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، يوم 22 فبراير (شباط) الماضي، الذي وافق أول احتفال بذكرى التأسيس في تاريخ المملكة، إن حل القضية الفلسطينية شرط التطبيع في علاقة السعودية مع إسرائيل.
إن المعنى واحد في الحالات الأربع، والهدف مشترك فيها، والمبدأ لا يتجزأ من الملك الجد إلى ولي العهد الحفيد، مروراً بالمبادرة ومعها حديث وزير الخارجية، وليس على صانع القرار في تل أبيب سوى أن يرى هذا، وأن يعيه، وأن يقرأه، لعل ذلك يحرّك القضية من مكانها.
ولو قرأت تل أبيب هذا السياق الجامع من حديث الملك المؤسس إلى حديث ولي العهد، وما بينهما، فسوف توفر الكثير من الجهد ومن الوقت في منطقة لن تهدأ إلا بحل القضية!