موسكو ليست جمعية خيرية

موسكو ليست جمعية خيرية

موسكو ليست جمعية خيرية

 العرب اليوم -

موسكو ليست جمعية خيرية

بقلم: سليمان جودة

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه سوف يقدم القمح بالمجان إلى الدول الأفريقية، ولا بد أن هذه هي المرة الأولى التي تكتشف فيها عواصم القارة السمراء أن رغيفها ستقدمه موسكو، وأن ذلك سيكون مجاناً بلا ثمن تدفعه من فلوسها. لقد أعلن الرجل ذلك خلال مؤتمر روسي أفريقي في عاصمة بلاده في العشرين من هذا الشهر، فسارعت وكالات الأنباء تنقله عنه في كل الأرجاء.

ولم يشأ بوتين أن يتوقف في عطاياه عند هذا الحد، ولكنه ذهب إلى القول بأن بلاده ستسقط ديوناً عن أفريقيا تصل في قيمتها إلى ما يقرب من عشرين مليار دولار.
أما فيما يخص القمح، فالخوف أن يتصرف الرئيس الروسي بالطريقة التي كان صاحب المطعم إياه قد تصرف بها، عندما علّق على باب مطعمه لافتة تقول: الأكل غداً بالمجان.
وكانت خدعة طبعاً، وكان الخداع في اللافتة نفسها أكثر مما هو في شيء آخر؛ لأن الرجل كان كلما جاءه زبون يطلب الأكل بالمجان، أخذه إلى الباب وأفهمه بلطف أن اللافتة تقول غداً لا اليوم، فإذا انصرف الزبون حزيناً ثم جاء في الغد يملؤه الأمل في وجبة مجانية، اكتشف أن للغد الجديد غداً آخر يتبعه، وهكذا تمضي الأيام بين يوم وغد إلى يوم القيامة بغير توقف ولا انقطاع .
ورغم أن العرض الروسي براق للغاية من حيث الشكل فإن الأمور تؤخذ في الغالب بمضامينها لا بأشكالها، مهما كانت الأشكال بديعة وجميلة.
ولم يسمع أحد طبعاً أن روسيا تحولت من دولة إلى جمعية خيرية، ولا سمعنا أن موسكو نامت ثم أصبحت توزع الغذاء بلا مقابل على القارات، وعندما يحدث هذا التحول سوف نصدق ما قاله الرئيس الروسي، وسوف لا نتوقف عند كلامه في مثل هذا الشأن، فضلاً عن أن نشكك فيه.
والغريب أن بوتين نفسه كان من فترة قد أعلن عن هذا الأمر، ولا أحد يعرف لماذا قرر العودة إليه من جديد، ولا أحد يعرف أيضاً ما إذا كان الموضوع في المرتين السابقة والحالية قرار صادر عن صاحبه، أم أنه فكرة تراوده، أم أنه ماذا على وجه التحديد؟
ولكن ما نعرفه أن الرئيس السنغالي ماكي صال، رئيس الاتحاد الأفريقي السابق، كان قد ذهب إلى موسكو في بدايات الحرب الروسية على أوكرانيا، وكان قد راح يناقش قضية واحدة مع سيد الكرملين، وكانت هذه القضية هي ألا يتوقف تصدير القمح الروسي إلى القارة السمراء؛ لأنها ربما تكون مهددة بالجوع إذا ما توقفت صادرات القمح الروسي إليها.
كان الرئيس صال يتحدث وقتها بصفته الأفريقية أكثر مما يتحدث بصفته السنغالية، والمعنى أنه كان يطلب القمح للقارة التي كان يتولى رئاسة اتحادها، أكثر مما كان يطلبه لبلاده الواقعة غرب القارة، ونذكر أن موسكو كانت قد وعدته خيراً فيما راح يطلبه.
وكان مطلبه أمراً غريباً في حد ذاته، بل كان يدخل في نطاق المفارقات السياسية التي لا يمكن نسيانها ولا استيعابها؛ لأن هذه القارة هي الأغنى بين قارات الدنيا من حيث المساحة الصالحة للزراعة، ومن حيث الماء الصالح للري في نهر الكونغو وفي غير نهر الكونغو، ومع ذلك، فما كان يطلبه صال من بوتين كان يبدو وكأن أفريقيا لا فيها أرض، ولا فيها ماء، ولا فيها شيء ينفع للحياة.
وما يقال عن القمح المجاني يقال بالدرجة نفسها عن العشرين مليار دولار، التي لا نعرف كيف ستتوزع بين دول القارة، ولا كيف سيكون إسقاطها عن العواصم المدينة لموسكو؟
ويمكن اعتبار قصة العشرين مليار دولار مع قصة القمح المجاني، من قبيل الغزل السياسي الذي ينهال على أفريقيا من كل اتجاه هذه الأيام.
وليس أدل على هذا الغزل، ولا على قوته، ولا على تواصله، إلا ما قاله سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، عندما زار الخرطوم ضمن جولة أفريقية له قبل أسابيع. لقد قال وهو يغادر العاصمة السودانية إنه وجد ستة مبعوثين دوليين في انتظاره هناك، وأنه لم يكن يتوقع أن تطارد بقية الدول بلاده إلى هذا الحد، ولا أن تظل تلاحقها في خطواتها إلى هذه الدرجة.
والحقيقة أن الزائرين الدوليين الستة لم يكونوا يلاحقون موسكو، ولا كانوا يطاردونها، ولكنهم كانوا ضمن توجه عالمي يبدو وكأنه يكتشف وجود أفريقيا على الخريطة للمرة الأولى.
وما يقول الرئيس الروسي إنه سيقدمه للقارة من قمح أو من ديون سوف يسقطها، هو عمل سياسي مجرد في حقيقته وفي مضمونه، ولكنه يضع القناع الإنساني على وجهه، ويخلط بين السياسة والعمل الخيري، ويوظف الثاني لخدمة الأولى، ولا يجد حرجاً في أن يفعل ذلك أو يعلنه.
إن أفريقيا تتشكل من 54 دولة، وكل هذه الدول أعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعددها يصل إلى ما يزيد على ربع عدد الدول الأعضاء في الجمعية، وعند عرض أي قضية روسية هناك في نيويورك، سوف تنتظر روسيا من دول القارة ما يقابل القمح والديون الساقطة، وسوف لا يقال هذا صراحةً بالطبع، ولكن الممارسات الأفريقية سوف تتكفل هي وقتها بأن تقوله.
وهكذا سوف تكتشف القارة السمراء أنها لا تملك فقط الأرض التي توازي في مساحتها مساحة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا والصين مجتمعة، ولا تملك الماء الذي يتدفق في أكثر من نهر وحسب، ولا تملك المعادن بكل أنواعها في باطن أرضها وكفى.
سوف تكتشف أنها تملك هذا كله وغيره معه، ولكنها في الوقت ذاته تملك من الأصوات في الجمعية العامة ما لا تملكه قارة سواها.
وهذه الأصوات لها وزن سياسي طبعاً، وليست أصواتاً تصب في فراغ عند الضرورة، ولكنها قادرة على أن يكون لها أثر في أروقة وقاعات المنظمة الدولية، ويريد الرئيس الروسي أن يجعلها معه، وهو يخوض حربين: واحدة على الجبهة مع أوكرانيا، وأخرى في المنظمات الدولية مع حلفاء أوكرانيا ورعاتها.
ولا يمكن النظر إلى قرار توقيفه الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية، إلا على أنه مفردة من بين مفردات في الحرب الممتدة بينه وبين رعاة وحلفاء أوكرانيا، وإلا على أنه معركة من بين معارك تتواصل مع هؤلاء الرعاة منذ بدء حربه على أوكرانيا في السنة الماضية.
ومثل هذه المعارك في حاجة إلى تحشيد سياسي من الطرفين على مستوى العالم، ولا تزيد وعود القمح المجاني والديون التي ستسقط، عن أن تكون طوبة مضافة في هذا التحشيد على الجانب الروسي؛ لأن المكاسب على الجبهات لا بد أن تصادف ما يحميها في عالم السياسة.
القمح في حالتنا وجبة على كل مائدة أفريقية، ولكنه ورقة سياسية في يد القيصر في موسكو، والديون المستحقة على عواصم القارة السمراء للعاصمة الروسية واجبة السداد، ولكن القيصر يغازل بها ويستخدمها، ولا وجود للمجانية في الموضوع حتى ولو لوّح بها الرئيس الروسي، لأن المجانية لغة لا تتكلمها الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.

arabstoday

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

GMT 06:11 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

اكتشافات أثرية مهمة بموقع ضرية في السعودية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

موسكو ليست جمعية خيرية موسكو ليست جمعية خيرية



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 09:17 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

فواكه طبيعية لتحسين وظائف الكلى ودعم تطهيرها بطرق آمنة
 العرب اليوم - فواكه طبيعية لتحسين وظائف الكلى ودعم تطهيرها بطرق آمنة

GMT 12:55 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح
 العرب اليوم - دينا الشربيني ورانيا يوسف تستعدّان للقائهما الأول على المسرح

GMT 08:52 2024 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

كيا EV3 تحصد لقب أفضل سيارة كروس أوفر في جوائز Top Gear لعام 2024
 العرب اليوم - كيا EV3 تحصد لقب أفضل سيارة كروس أوفر في جوائز Top Gear لعام 2024

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 06:06 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

راجعين يا هوى

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 08:18 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

الجيش الإسرائيلي يعلن اعتراض مسيّرة قبالة سواحل حيفا

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 13:18 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

قطر ترحب بوقف النار في لبنان وتأمل باتفاق "مماثل" بشأن غزة

GMT 01:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

حزب الله يستهدف مناطق إسرائيلية قبل بدء سريان وقف إطلاق النار

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab