بقلم: سليمان جودة
على مدى عامين لم يكن يمر يوم تقريباً، إلا وتقع عيناك فيه على عبارة صارت متداولة فيما بيننا، وفي مرحلة تالية أصبحت العبارة تتنقل بسهولة من لسان إلى لسان، ثم راحت تتحرك تلقائياً بين الناس في المنطقة، ربما دون أن يتوقف أحد منّا أمامها ليفكر فيها أو في معناها!
ومن طول تكرارها على طول السنتين، تحولت من عبارة بدَت في أول الأمر طارئة علينا، إلى مصطلح يتردد على بعضه في عفوية واضحة.
هذا المصطلح هو «اتفاقيات السلام الإبراهيمي»... وقد كان بدء ظهوره في السنة قبل الماضية، التي كانت آخر سنوات الرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض، وقد كان يأمل الحصول على فترة رئاسية ثانية يتمكن خلالها من ترسيخ المصطلح في أنحاء المنطقة.
ولو حالفه الحظ وقتها لكنا اليوم نجد أنفسنا غارقين في تفاصيل مصطلحه الذي أسّس له، وكنا سنصحو على اتفاقيات السلام الإبراهيمي وننام على وقعها في المساء، ولكن لأن الحظ لم يحالفه في لحظة التتويج، فلقد تراجع ذكرها وانحسر صداها، ولم نعد نسمع بها أو نصادفها في طريقنا، اللهم إلا في المناسبات التي قد تقتضي التذكير بها أو إعادتها إلى الحياة من جديد.
والاتفاقيات التي أتحدث عنها هي التي أطلقت في وقتها علاقات دبلوماسية بين إسرائيل، وبين الإمارات والبحرين والمغرب والسودان. وقد كادت تطلق علاقات من النوعية نفسها لدول عربية أخرى مع إسرائيل، لولا أن إدارة ترمب قد رحلت عن البيت البيض على غير توقع منها. ومن بعدها جاءت إدارة الرئيس جو بايدن التي بدت غير متحمسة لإعادة إطلاق الاتفاقيات مع عواصم عربية جديدة من ناحية، ثم بدت من ناحية ثانية منشغلة في قضايا مختلفة تراها أجدى بأن توضع على رأس أولوياتها في منطقتنا.
وقد رحل ترمب عن منصبه الرئاسي وفي نفسه شيء من اتفاقيات السلام الإبراهيمي، بالضبط كما كان واحداً من علماء النحو في لغتنا العربية قد عاش يبحث في أصل وفصل لفظ «حتى» فلما لم يصل إلى نتيجة ترضيه غاب عن دنيانا وفي نفسه «شيء من حتى»!
ومن بعد رحيل ترمب عن السلطة تبخر الكلام عن «صفقة القرن» التي ارتبطت بإدارته وارتبطت إدارته بها، وصرنا لا نسمع عنها إلا في القليل النادر، ومن الممكن أن تلحق اتفاقيات السلام الإبراهيمي بالصفقة الشهيرة، لو أن الطرف الأول في هذه الاتفاقيات لم يأخذها على النحو الذي يجب أن تؤخذ به، ولو أنه تطلع إليها وتعامل معها، كأنها تخصه وحده ولا تخص طرفاً آخر معه يشاركه يداً بيد!
والطرف الأول ليس واشنطن بالتأكيد، رغم أنها هي العاصمة التي رعت وهي التي تحمست، فالطرف الأول هو تل أبيب، وهي طرف أول لأنها سعت من خلال إطلاق علاقاتها مع العواصم الأربع إلى أن تقول إن هذه صيغة ممكنة للسلام مع بقية العواصم في المنطقة، وإن تكرارها وارد إذا ما كان الحديث حديث يد تمتد بين إسرائيل وبين الدول العربية كلها، وليس فقط بينها وبين دول الجوار وحدها.
إن هذه الاتفاقيات بين طرفيها هي كالعقد المبرم بين أي شخصين، ومن شأن مثل هذا العقد أن يرتب التزامات على كل طرف، وأن يجعل كل طرف منهما مسؤولاً عمّا وقّع عليه، وملتزماً بالذهاب إلى تنفيذ العقد ببنوده المختلفة عملياً على الأرض.
ورغم أن صفقة القرن قد اختفت تماماً، ولم تعد مادة في أي حديث سياسي عام، فإن اتفاقيات السلام الإبراهيمي لا تزال حية تقاوم الاختفاء!
وقد وجدت ضالتها في مقاومة الاختفاء خلال مناسبة شهدتها تل أبيب مؤخراً، عندما وقف نفتالي بنيت، رئيس وزراء إسرائيل المنتهية ولايته، يسلم خلالها رئاسة الحكومة إلى يائير لبيد، رئيس الوزراء الجديد، الذي سيكون عليه أن يرأس حكومة تسيير أعمال من الآن إلى نوفمبر (تشرين الثاني)، حين تجري انتخابات برلمانية هي الخامسة من نوعها خلال أقل من ثلاث سنوات!
لقد تكلم لبيد عن اتفاقيات السلام الإبراهيمي كما لم يتكلم عنها رئيس حكومة إسرائيلي من قبل فقال إنها: نعمة كبيرة!
ورغم أن بنيامين نتنياهو هو رئيس الحكومة الذي انطلقت اتفاقيات السلام الإبراهيمي بين بلاده وبين الدول الأربع في أثناء وجوده في السلطة، ورغم حفاوته البالغة بانطلاق العلاقات في حينها، إلا أنه لم يحدث أن وصفها بهذا الوصف اللافت الذي صدر عن لبيد في حقها.
وقد حاول رئيس حكومة تسيير الأعمال الإسرائيلية شرح ما يقصده بالنعمة الكبيرة في حديثه عن اتفاقيات السلام الإبراهيمي، ولكنه قال كلاماً عاماً من نوع الكلام الحلو الذي لا تستطيع أن تضع يدك فيه على شيء محدد يبرر لماذا هو كلام حلو!
غير أن ما غرّد به آشر فريدمان، مدير معهد السلام الإبراهيمي في تل أبيب، يمكن أن يكون مفيداً في فهم المعنى الذي قصده لبيد وهو يتكلم عن النعمة الكبيرة. قال فريدمان إن العلاقات التجارية بين إسرائيل وبين أبوظبي والمنامة حطمت أرقاماً قياسية خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي.
ومن الأرقام التي ذكرها مدير المعهد نفهم أن هذا النوعية من العلاقات بين الدول الثلاث شهدت تصاعداً الشهر الماضي لم تشهده منذ إطلاق العلاقات الدبلوماسية بينها في صيف السنة قبل الماضية. وهذا تطور طبيعي في سياق علاقات بدأت ثم مضت على قاعدة اقتصادية في الأساس.
والوجه الاقتصادي ليس سراً في تل أبيب بالذات منذ البداية، كما أنه واضح منذ اللحظة الأولى لإطلاق الاتفاقيات، ولكن وضوحه من جانب إسرائيل لا ينفي أن للموضوع وجهاً سياسياً آخر يشبه أحد وجهي العُملة، التي لا يتخيل أحد أن يكون لها وجه واحد لا غير.
هذا الوجه السياسي هو الذي يتعلق بالقضية الأم بين قضايا المنطقة على تعددها وتكاثرها يوماً بعد يوم، وهو الوجه الذي يخص قضية فلسطين، وهو الوجه الذي يقول إن تجاهله مع الحديث عن وجه العُملة الآخر، لا يعني أنه غير موجود، ولا يعني أن للعُملة وجهاً واحداً لا تعرف سواه، وإلا لكان الأمر ضد المنطق الذي تعارف عليه الناس وضد طبائع الأشياء في الإجمال!
ولو لاحظ رئيس حكومة تسيير الأعمال لأدرك ربما أن توقف قطار السلام الإبراهيمي في مكانه من بعد أن غادر ترمب، لا يرجع إلى شيء قدر رجوعه إلى أن صانع القرار في إسرائيل يتصور أن الوجه الاقتصادي الذي يتهافت هو عليه، يمكن أن يغني عن الوجه السياسي اللازم في القضية كلها، أو يمكن أن يكون كافياً في مجال إثبات الجدية في الذهاب للحل.
قد يكون الوجه الاقتصادي كافياً لبعض الوقت، ولكنه قطعاً لن يكفي لكل الوقت، لأن اتفاقيات السلام الإبراهيمي ستبدو بغيره كمن يحجل على قدم واحدة، فلا تستوي له حركة، ولا يتوازن له سير على طريق!
لقد بدا لبيد سعيداً وهو يصف النعمة الكبيرة التي يراها في الاتفاقيات الشهيرة، وبدا منتشياً وهو يصفها بما لم يصفها به الذين سبقوه من الساسة الإسرائيليين على الطريق، ولو أمعن التأمل فيما قاله لربما انتبه إلى أن في الثقافة العامة للإنسان في منطقتنا، ما يشير إلى أن النعمة بمعناها المجرد قد تتحول إلى نقمة، إذا ما أغفل المتنعم بها أن لها مقتضى لا تتم إلا به ولا تكتمل.
ولا يكتمل الوجه الاقتصادي لاتفاقيات السلام الإبراهيمي إلا بحضور الوجه السياسي بالتوازي في شأن القضية الأم، وإلا بخلق علاقة بين الوجهين من نوع العلاقة التي تربط النتيجة بالمقدمة!