بقلم - سليمان جودة
ما أقرب المسافة بين قارة اكتشفها الدكتور يوسف إدريس في مطلع السبعينات من القرن العشرين، وبين قارة أخرى يجري اكتشافها مرة بعد مرة في القرن الحادي والعشرين!
ما أقرب المسافة بينهما على الخريطة، لأنهما متجاورتان بحكم قواعد الجغرافيا، ولأنهما لا يفصل بينهما سوى البحر الأحمر الذي يتمدد في مجراه بين المحيط الهندي في الجنوب والبحر المتوسط في الشمال. ولولا البحر الأحمر لكانت القارتان قارة واحدة من المحيط الأطلسي في الغرب إلى المحيط الهادي في الشرق، ولكن الطبيعة أبت إلا أن تشق مجرى هذا البحر بين القارتين.
وكان يوسف إدريس قد زار آسيا في السبعينات، وكانت زيارته إليها وكأنها اكتشاف من جانبه لهذه القارة الفسيحة، وحين عاد من الزيارة راح يوثقها في كتاب من كتب أدب الرحلات أصدره في عام 1972 وكان عنوانه كالتالي: اكتشاف قارة!
وقد بدا يومها وكأنه يتنبأ مبكراً بمستقبلها السياسي الذي لم يكن شيء من معالمه قد ظهر بعد، وبدا وكأنه يرى الإنسان فيها على غير ما كان يرى البشر في باقي القارات، فلم يجد حرجاً في أن يطلق عليه لقب: الإنسان الأصفر!
ولم يكن هذا اللقب على سبيل التمييز السلبي بين إنسان في آسيا، وبين إنسان آخر في سائر القارات، ولكنه كان لقباً من الألقاب التي تقدم وصفاً لبعض الملامح، أكثر مما تميز بين إنسان هنا وإنسان هناك. إن الأمر يظل كما تصف أنت إنسان أفريقيا، فتقول عنه إنه الإنسان الأسمر، فيأخذ الوصف من سمات القارة وملامحها ليضع على الإنسان الذي يسكنها ويعيش على أرضها.
ولو عاش يوسف إدريس ثم رأى الصعود السياسي يرافق الصعود الاقتصادي في القارة التي اكتشفها، لكان قد أضاف إلى فصول كتابه فصلاً آخر يقول فيه إنه إذا لم يكن أول واحد يكتشفها، فإنه يبقى من بين قلائل اكتشفوها وأشاروا إليها في مرحلة مبكرة من صعودها الزاحف.
وعندما تبين لعواصم صناعة القرار في العالم أنها انتهت من اكتشاف قارة الإنسان الأصفر، فإنها عبرت البحر الأحمر غرباً في اتجاه القارة السمراء لاكتشافها، أو ربما لإعادة اكتشافها، وكانت الصين هي أول دولة تعمل في هذا الطريق، وكانت ولا تزال هي الدولة الأكثر وجوداً في أفريقيا على المستوى الاقتصادي بالذات، ومن شأن الاقتصاد أن يتوجه إلى لعب دور سياسي في مرحلة من مراحل نضجه المتقدمة، وهذا هو الذي أقلق بقية العواصم فلم تضيّع وقتها، وإنما راحت تسابق بكين على أرض القارة، وتابعنا الأمر من خلال مشاهد متلاحقة كانت العواصم الكبرى تتسابق فيها عاصمة مع عاصمة!
كان اكتشاف القارة السمراء اكتشافاً اقتصادياً في الأساس، ولكنه لا يخلو بالطبع من اكتشاف سياسي بالتوازي، لأن كل دولة فيها إذا كانت ممتلئة بالموارد الطبيعية، فهي في الوقت ذاته صاحبة صوت في الأمم المتحدة، وهي قادرة على أن تستخدم صوتها وأن توظفه لخدمة مصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر.
والاكتشاف هذه المرة ليس على يد كاتب مثل يوسف إدريس، كان يتنقل في أنحاء القارة الصفراء، ثم يحرص على أن يشرك معه القارئ فيما يراه.
اكتشاف القارة السمراء يجري على يد دول كبرى، وإذا كانت الصين هي أول هذه الدول فإنها طبعاً لم تكن آخرها، لأن بكين ما كادت تصل إلى الأراضي الأفريقية وتستكشفها، حتى تقاطرت من ورائها عواصم كبيرة سارعت إلى هناك واحدة من وراء واحدة.
وفي أيام دونالد ترمب كانت الولايات المتحدة قد ضجت من الوجود الصيني في أفريقيا، وكانت قد لاحظت أنه وجود بدا اقتصادياً، ثم ما لبث أن تحول إلى ما يشبه النفوذ السياسي، وكان غريباً أن يبدو الوجود الصيني الأفريقي في نظر إدارة ترمب وكأنه اكتشاف، أو كأن الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض تراه وتتعثر فيه للمرة الأولى. المؤكد أن الصين لم توجد أفريقياً في يوم وليلة، ولكنها كانت كلما استكشفت دولة أفريقية انتقلت إلى غيرها، ولم يكن وجودها في هذه القارة من قارات العالم بعيداً عن مشروعها الكبير الذي تسميه: الحزام والطريق. إن وجودها الأفريقي إذا لم يكن جزءاً من مشروعها الشهير فهو مما يساعد المشروع ويدفعه.
ولكن إدارة ترمب لم تشأ أن تضيع وقتها، وقالت على لسان جون بولتون، مستشارها للأمن القومي، إن الولايات المتحدة وضعت استراتيجية لتطويق الوجود الصيني في القارة السمراء، ولم يكن الهدف هو تطويق الوجود في حد ذاته، ولكن الهدف كان محاصرة النفوذ الصيني وتجفيف منابعه، لأنه نفوذ لا يتحرك في المطلق، ولكنه يفعل ذلك في سباق مع النفوذ الأميركي.
ومن فرط السباق على اكتشاف القارة رأينا متسابقين اثنين آخرين يتنقلان بين عواصمها في اللحظة نفسها، وكان المتسابقان هما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وسيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، فكلاهما مضى في رحلة اكتشاف على أرضها الشهر الماضي.
كان مجيء لافروف إلى أفريقيا بحثاً روسياً عن ظهير أفريقي في حرب روسيا على أوكرانيا، وكان في جانب آخر منه نوعاً من التحشيد في الصراع على الأراضي الأوكرانية بين موسكو من ناحية، وبين الولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما من الناحية الثانية. وقد أراد «القيصر» الروسي أن تكون الزيارة عربية أفريقية معاً، فبعث وزير خارجيته يتحدث أمام الجامعة العربية في القاهرة، فيخاطب عواصم العرب كلها من تحت سقف بيت العرب، ثم ينتقل منه إلى الكونغو، ومنها إلى أوغندا، ومن بعدها إثيوبيا.
ودخل ماكرون السباق مع روسيا، فبدأ زيارة موازية من الكاميرون، ومنها إلى بنين، ومن بنين إلى غينيا بيساو، وفي الدول الثلاث كان يبعث الحياة في نفوذ فرنسي تقادم به الزمان، وكان يضع طوبة مضافة في بناء زعامة يريدها لنفسه في القارة العجوز.
وقبل أيام بدأ أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، زيارته إلى جنوب أفريقيا، معلناً عن أنها جولة ممتدة له في القارة، لا مجرد زيارة عابرة إلى دولة من دولها. ولم تكن زيارته بعيدة عن زيارة ماكرون ولا عن زيارة لافروف، إذا وضعنا الزيارات الثلاث في إطار زمني واحد، ولا كانت بعيدة عنهما إذا وضعنا الثلاث في مربع السباق على النفوذ في القارة السمراء.
ولا كانت زيارة بلينكن بعيدة كذلك عن أن تكون تجلياً من تجليات الاستراتيجية التي كان بولتون قد أعلنها، وكان قد وقف أمام الكاميرات يبشر بها ويكشف عن بعض تفاصيلها.
ولا بد أن بعض الذين تابعوا الزيارات الثلاث في تقاطعاتها المختلفة، قد راحوا يسألون أنفسهم عما إذا كانت أفريقيا ذاتها قد اكتشفت نفسها، أم أنها لا تزال عصية على اكتشاف الذات؟!
والواضح أنها لم تكتشف نفسها بعد، وأن تهافت الآخرين على اكتشافها لم يحركها في اتجاه اكتشاف إمكاناتها وتوظيفها على الصورة الصحيحة، وقد يرى المتابع هذا المعنى بوضوح في أكثر من مشهد، ولكنه سيراه على أوضح ما يكون في زيارة رئيس الاتحاد الأفريقي إلى موسكو، داعياً الرئيس فلاديمير بوتين إلى أن يفتح موانئ البحر الأسود أمام تصدير الحبوب، حتى لا تموت شعوب في دول الاتحاد من الجوع!
القارة التي يتسارع الساسة الطامحون إليها لاكتشافها، أو لإعادة اكتشافها، لم تصل بعد إلى طريقة ترى بها إمكاناتها وتكتشفها، فكأن خيرها لغيرها، أو كأنها مثل نبات الطرخون الذي يزرعه الرجل في الشام في أرضه فينبت في أرض الجار، وقد اشتهر بذلك لدرجة أن الباعة هناك إذا نادوا عليه في الشارع قالوا: خاين يا طرخون.. زرعوك بدوما طلعت بالقابون!