بقلم: سليمان جودة
سوف يقال الكثير عن زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى جدة يومي 15 و16 من هذا الشهر، ومن بين هذا الكثير سيقال إنها الزيارة التي كانت شاهدة على موت فكرة قبل أن ترى النور!
هذه الفكرة هي ما جرى تداوله على أنه «ناتو عربي» وأنه سيكون النسخة العربية من حلف الناتو الأميركي الأوروبي، وأن هذا «الناتو العربي» المقترح، أو الذي كان مقترحاً حتى ما قبل الزيارة بقليل، هو صيغة من الصيغ لمواجهة سلوك إيران في جوارها العربي، والوقوف في وجه نفوذها في الإقليم.
وقد بدأت الفكرة على استحياء مع الإعلان عن زيارة بايدن منتصف الشهر الماضي، وظلت متداولة طوال الشهر الفاصل بين الإعلان عن قمم جدة وبين انعقادها بالفعل، وما كادت القمم تنعقد حتى تبخرت الفكرة وصارت شيئاً من الماضي.
ولا أحد يستطيع أن يحدد الأب الشرعي للفكرة، ولكن بما أنها ارتبطت بالزيارة الأميركية وجوداً وعدماً، فمن الممكن القول بأنها كانت من نوع التفكير الأميركي بالصوت العالي في الموضوع، ومن الجائز أن نقول إن مولدها كان هناك في واشنطن، وإنها من بعدها قد جاءت تدور بين عواصم المنطقة المعنية، لعلها تجد عاصمة من هذه العواصم تقبل بها وتتبناها!
ومما تابعناه في مسيرها وهي تتنقل خائفة تترقب من عاصمة إلى عاصمة، يتبين لنا أنها كانت كلما دقت باباً فوجئت به مغلقاً في وجهها، وكانت كلما أعادت المحاولة في طرق الباب، لم يكن حظها في المرات اللاحقة بأفضل منه في المرات السابقة!
وقد سمعنا من وزير خارجية عربي ينفيها تماماً قبل بدء زيارة بايدن بأيام، رغم أن عاصمة بلاده كانت هي التي بشَّرت بها صراحةً قبل غيرها من العواصم.
ومن بعده خرج رئيس وزراء في عاصمة عربية يقول بالصراحة نفسها إن بلده لن يكون جزءاً من محور أو تحالف في المنطقة، وكان معنى كلامه أن الطريق أمام الفكرة كان يضيق، وأن حظها في الوجود كان يقل، وأن حقها في الحياه كان يتلاشى.
ومن بعد وزير الخارجية، ورئيس الوزراء، قرأنا لمستشار رئيس عربي يؤكد ما قال به رئيس الوزراء، ويقول إن عاصمة بلاده بدورها أبعد ما تكون عن القبول بهذه الفكرة. وهكذا تتالت الأحاديث العربية الرسمية في هذا الاتجاه، وتتالت الاعتذارات عن عدم استقبال المقترح، رغم قوة الإغراءات التي كانت تسبقه، وترافقه، وتحاول الترويج له عند إطلاقه في البداية.
وقد بدت الفكرة في كل مراحل تداولها، كأنها نبتة أخذوها من مكانها، ثم جربوا زراعتها في أرض ليست أرضها، وفي كل مرة كانت تذبل ثم تموت، ولم يكن هذا غريباً على كل حال، لأنه لا فرق في الحقيقة بين فكرة يجري تداولها في غير أجوائها المساعدة، وبين نبتة نأخذها لنزرعها في غير أرضها، ففي الحالتين لن تعيش النبتة، ولن تصمد الفكرة.
وهذا تقريباً ما جرى مع فكرة حلف بغداد الذي نشأ في 1955، وقد كان الغرض من ورائه أن يكون درعاً تواجه المد الشيوعي وقتها في المنطقة، ورغم أنه حلف تشكل بالفعل، ورغم أنه تأسس من العراق، وإيران، وتركيا، وباكستان، فإن حظه في آخر الطريق لم يختلف في شيء عن حظ «الناتو العربي»، فكلاهما لم يُكتب له التحقق ولا النجاح.
وليس سراً أن حلف بغداد كان فكرة أميركية في الأصل، وأن كل الدول التي تلقت دعوة للانضمام إليه، قد توجست منه شراً، وفضلت أن تبتعد عنه، ليس عن رفض له في حد ذاته، ولكن لأنها كانت تراه شجرة في غير تربتها، ونبتة في غير أرضها.
وإذا كان حلف الناتو قد عاش إلى اللحظة الحاضرة، وإذا كان حلف بغداد قد مات ولم يمتد به العمر، رغم أن نشأتهما كانت في فترة زمنية واحدة تقريباً، وهي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فلأن الأول كان نبتاً في أرضه، وفي بيئته، وفي أجوائه، ولم يكن الثاني كذلك في كل الأحوال.
وتعرف واشنطن طبعاً أن حلفاً اسمه حلف بغداد كان هنا ذات يوم، وأنه كان من بين بنات أفكارها، وأن التعثر كان نصيبه في التقييم الأخير، إلا أنها عادت تغير اسمه، وتبدل ثيابه، ثم تقدمه في المنطقة نفسها، كأن ونستون تشرشل كان يقرأ المستقبل بقدر ما كان يرصد الحاضر، عندما أطلق عبارته الشهيرة عن أن الولايات المتحدة لا تصل إلى الطريق الصحيح قبل أن تجرب كل الطرق الخطأ!
ورغم أنها هي التي جرّبت الموضوع نفسه في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، وهي التي شهدت عدم قابليته للتحقق، فإنها عادت تطرحه هو نفسه تقريباً في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. لقد عادت تجرّب مع حلف «الناتو العربي»، ما جربته من قبل مع حلف بغداد، ثم باء وقتها بالفشل، كأنها تتصور أن في مقدورها أن تفعل الشيء نفسه للمرة الثانية ثم تحصل على نتيجة مختلفة!
ولا بد أن العواصم التي جهرت برفض «الناتو العربي»، لم تكن تفعل ذلك عن رغبة - لا سمح الله - في الانتصار لإيران، ولكنها كانت تفعله عن إيمان بأن حل المشكلة مع طهران لا يكون إلا بالحوار، لا بالحرب، ولا بالمواجهة، وكانت وهي تجاهر برفض الفكرة تدعو حكومة المرشد في إيران إلى أن تنتبه إلى أن هذا الرفض العربي للفكرة، إنما يعبر عن ميل إلى العقلانية لدى العرب في علاقتهم معها، وأن هذه العقلانية من جانبنا تترقب شيئاً مماثلاً على الشاطئ الآخر من الخليج العربي!
وليس من الواضح أن الحكومة الإيرانية قد التقطت هذا المعنى، ولا من الواضح أن «الرسالة العربية» في عملية رفض الفكرة قد وصلت إلى صانع القرار الإيراني بعد، غير أن الأمل في التقاط المعنى قائم وموجود!
وحقيقة الأمر أن القضية ليست في أن يبدأ حوار بين الخليج وإيران، فما أكثر ما بدأ حوار بين الطرفين، وما أكثر ما تكلم الطرف الإيراني عن رغبة لديه في حوار مع الرياض، أو مع غيرها من عواصم دول الخليج الست، ولكن ما كان يتكلمه كان ينقصه على الدوام أشياء جوهرية!
كان ينقصه أن يتصرف الطرف الإيراني على الأرض كما يتكلم، لا أن يتحدث لغة مرنة على الشاشة، ثم يتصرف على العكس من ذلك تماماً في الميدان!
وكان ينقصه أن تدرك حكومة المرشد أن القضية ليست في أن تخرج عنها دعوات للحوار مع جوارها على الشاطئ الآخر للخليج، ولكن القضية هي في أن تكون صادقة مع نفسها وهي تطلق هذه الدعوات، ثم تكون صادقة مع غيرها وهي تجلس لتتحاور فتسمع وتقول!
وكان ينقصه أن تنصت إيران إلى ما يصدر في الرياض بهذا الشأن، وأن تعي الدرس فيه جيداً، لأن السعودية لم يخرج عنها ما يفيد بأنها تريد صراعاً، أو بأنها تسعى إلى مواجهة مع جارتها الإيرانية، وإنما يؤشر كل ما صدر عنها إلى رغبة جادة في علاقة من علاقات الجوار الطبيعي، الذي لا يقوم إلا على التعايش، والتعاون، واحترام كل طرف للطرف الآخر.
وهذا بالضبط ما صدر عن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، الذي دعا القيادة الإيرانية في كلمته خلال قمة جدة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى أن تكون جزءاً من رؤية تتبناها المنطقة للمستقبل، بدلاً من أن تكون جزءاً من المشكلة!
من أجل هذا كله، لم يصادف «الناتو العربي» المقترح فرصة للحياة في المنطقة، وإذا كانت إدارة الرئيس بايدن قد أطلقت المقترح بالوناً للاختبار قبل الزيارة، فلا بد أن سيد البيت الأبيض قد اصطحب معه مقترح إدارته على الطائرة في طريق عودته إلى واشنطن!
اصطحب معه مقترحه بعد أن اكتشف أن أوباما كان قد حاول في زمن ما يسمى الربيع العربي فرض ما لا يتماشى مع المنطقة ولا تقبله، وأن ما تحاوله الإدارة الحالية في فرض هذا المقترح، لن يكون حظه بأفضل مما حاوله الرئيس الأسبق، ثم لم يكن نصيبه سوى الإخفاق!