بقلم - سليمان جودة
بعد أن توافق الكونغرس الأميركي في الحادي والعشرين من ديسمبر (كانون الأول)، على إعادة الحصانة السيادية إلى السودان، نستطيع أن نقول إن العاصمة السودانية الخرطوم، قد صارت حرة تماماً مما كان يقيدها قبل إعادة الحصانة إليها... ولكنها حرة في ذلك إلا قليلاً، كما سوف نرى حالاً، وكما سوف يرى السودان نفسه على مدى فترة ممتدة سوف تجيء!
الحصانة المعادة بتوافق بين أعضاء الكونغرس الأميركي، كانت قد غادرت أرض السودان عام 1993، عندما جرى في ذلك العام وضع الدولة السودانية على قائمة الدول الراعية للإرهاب!
أما السبب وقتها فكان اتهام السودان باستضافة أسامة بن لادن، ومعه عدد من قيادات التطرف المطلوبين عالمياً في تلك الأيام!
كان الحاكم في ذلك الوقت هو عمر البشير، وكان قد جاء إلى الحكم في عام 1989، عندما قاد انقلاباً على حكومة الصادق المهدي المنتخبة، وكان البشير مجرد لافتة تحكم من ورائها الجبهة الإسلامية التي كان الدكتور حسن الترابي يقودها!
وهكذا... ما كادت أربع سنوات تمر على وجود البشير والجبهة في السلطة، حتى كانت البلاد موضوعة على لائحة الإرهاب، التي لا توضع عليها دولة إلا ويتجنبها الاستثمار القادم من أي طريق، وإلا وتظل مكبّلة بما يشل حركتها ويعوق خطواتها، وإلا وتبقى أسيرة قيود تجعلها مكتوفة اليدين، فتنفق الكثير من وقتها وجهدها من أجل مفارقة القائمة الموضوعة عليها وبأي ثمن!
وهذا ما كان على مدى 27 عاماً كاملة، فلما أرادت الخرطوم أن تخرج من هذه القائمة السوداء، لم تخرج بالمجان بطبيعة الحال، ولكنها فوجئت بالولايات المتحدة تقايضها بما يجب عليها أن تدفعه عيناً ونقداً معاً. ولم يكن أمامها سوى أن تدفع لتخرج من ضيق القائمة إلى أرجاء الدنيا، ولم يكن وزير الخارجية السوداني المكلف عمر قمر الدين يبالغ في شيء، عندما وصف عملية إعادة الحصانة السيادية بأنها خروج من أشد الفترات ظلاماً في تاريخ البلاد!
دفعت الخرطوم عيناً، فأطلقت علاقاتها مع إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بضغط من إدارة الرئيس دونالد ترمب، التي كانت تعرف مدى حاجة الأشقاء في السودان إلى مغادرة القائمة، فكانت تضغط سياسياً بكل ما تستطيعه من أدوات!
ثم كان أن دفعت نقداً فخصصت 335 مليون دولار لضحايا عملية تفجير السفارتين الأميركيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998، وكذلك ضحايا تفجير المدمرة «يو إس إس كول» في خليج عدن عام 2000، وفي الحالتين كانت هناك دلائل فيما يبدو على أن متطرفين قادمين من السودان كانوا وراء العمليتين، وإلا ما كانت الحكومة السودانية قد وافقت على دفع دولار واحد!
هذا هو جزء من حصيلة حكم الجبهة الإسلامية التي سقط حكمها في السنة الماضية، عندما ثار السودانيون على حكم البشير وأسقطوه، ثم ذهبوا به إلى العدالة التي يقف أمامها هذه الأيام. وبالطبع، فلا علاقة لفشل حكم الجبهة في الخرطوم، وكذلك حكم الإسلاميين في عواصم أخرى، بالإسلام في حد ذاته، لأن هناك فرقاً بينه كديانة منفتحة على الدنيا بطبيعتها الأولى، وبين منغلقين يرفعون رايته ويحكمون باسمه، من دون وعي، ومن دون عقل، ومن دون فقه متصالح مع العصر!
ولم تكن هذه هي الحصيلة كلها كما قلت، ولكنها مجرد جزء يسير إذا ما قيس على الجزء الآخر، الذي يتمثل في أن السودان الذي تسلمته الجبهة بلداً واحداً قبل ثلاثة عقود من الزمان، قد صار بلدين اثنين أحدهما جنوب السودان الذي انفصل وأصبح دولة مستقلة، وثانيهما السودان نفسه الذي تنفس الصعداء في اللحظة التي غادر البشير فيها عتبات القصر!
ولم يكن الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السوداني، يبالغ في شيء هو أيضاً، حين وصف إعادة الحصانة السيادية إلى بلده، بأنها حالة من حالات الانعتاق!
فإذا انتبهنا إلى أن البشير سقط في أبريل (نيسان) من العام الماضي، أدركنا على الفور أن عملية إعادة الحصانة قد استغرقت وقتاً طويلاً، وأخذت مراحل ممتدة من الشد والجذب، وأن الإخوة في السودان قد فهموا منذ اللحظة الأولى أن مغادرة القائمة ليست عملية سهلة، وأن لها خطوات من وراء خطوات، وأن عليهم أن يقطعوها كلها وصولاً إلى الحالة الدولية الطبيعية أو العادية للبلد بين سائر البلاد!
ومع ذلك، فإن ما قيل من جانب الكونغرس في لحظة التوافق يشير إلى أن هذه العملية ذات المراحل لا تزال لها بقية سوف تأتي!
البقية التي لا يعرف أحد متى بالضبط سوف تكون لها نهاية، هي أن مشروع إعادة الحصانة السيادية، قد استثنى القضايا المرفوعة أمام المحاكم من جانب ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أو بالطبع من جانب ذوي الضحايا!
وهذه في حد ذاتها بقية صعبة، كما أن تعويضات ضحاياها سوف تكون من الضخامة في حالة إقرارها، بما لا يمكن معها عقد مقارنة بينها وبين تعويضات ضحايا تفجيرات السفارتين والمدمرة، فالله وحده في عون السودان وهو يتهيأ لخوض ما تبقى من المعركة!
ويبدو الإبقاء على هذا الاستثناء في مشروع إعادة الحصانة، كأنه مسمار جحا الذي عشنا نتذكر حكايته الموحية في كل حالة مماثلة!
فلقد جاء يوم على جحا قرر فيه بيع بيت عنده كان محبباً إلى نفسه، ولم يكن يعرف كيف سيفارق هذا البيت الذي عاش فيه سنين. وقد هداه تفكيره إلى حيلة رأى أنها ستعوضه عن بيع البيت وعن الخروج منه والتنازل عنه لصاحبه الجديد!
كانت الحيلة أنه دق مسماراً في جدار من حوائط البيت، ثم أفهم الشاري أن هذا المسمار عزيز جداً على قلبه، وأن له ذكريات معه، وأنه لا يطلب شيئاً سوى الحفاظ على المسمار في مكانه، وسوى السماح له برؤيته كلما وجد أنه في شوق إلى أن يراه!
وقد تصور المالك الجديد أنها مسألة سهلة، ثم تبين له بالتجربة أنها ليست كذلك، حين صار جحا لا يكاد يخرج من البيت بعد أن يلقي نظرة على مسماره، حتى يعود من جديد طالباً الإذن له بإلقاء نظرة أخرى، ثم ثالثة، وعاشرة، وهكذا بغير نهاية كانت تلوح في أفق قريب!
وفي كل الأحوال يبقى الأمر في قضية تعويضات ضحايا أحداث سبتمبر عصياً على الفهم والاستيعاب، لأن المستقر حتى الآن أن المشتبه بهم في تلك الأحداث التي وقعت قبل 19 عاماً، هُم تسعة عشر شخصاً ينتمون إلى أربع دول عربية، وهؤلاء المشتبه بهم ليس بينهم سوداني واحد. ومع ذلك، فالسودان سوف يغادر هذه القضية بعد حين كما غادر قضية الحصانة بعد سنين!