بقلم - سليمان جودة
على مدى تسعة أشهر مضت، بدت عملية إرسال مبعوث أممي جديد إلى ليبيا، كأنَّها ولادة متعسرة لا يريد مخاضها أنْ تكونَ له نهاية قريبة!
وعندما قرَّرت الأمم المتحدة قبل أيام، أن يكون البلغاري نيكولاي ملادينوف هو المبعوث الأممي الجديد المنتظر، فإنَّ قرار إرساله قد وضع بصدوره شبه المفاجئ، نهاية كنَّا نترقبها للأشهر التسعة غير المفهومة أممياً بالنسبة للقضية في ليبيا! إلا أن هذا المبعوث، كما جاء على لسانه، قد اعتذر لأسباب قال عنها إنها شخصية.
كان الدكتور غسان سلامة، المبعوث الأممي السابق، قد غادر منصبه في أول ربيع هذا العام مستقيلاً من مهمة كبرى، كان قد جاهد في سبيل أن تكونَ ذات عائد مفيد في حياة الليبيين، لولا أنَّه عندما تقدم باستقالته قد مضى إلى بيته، بينما لسان حاله يردّد ما كان الشاعر يقوله عن نفسه وعن سواه ممن يمرُّ بالحالة نفسها، كان الشاعر يردد في أسى أنَّه قد صحَّ منه العزم ولكن الدهر أبى!
لقد أمضى سلامة سنوات يحاول ويكرر المحاولة من موقعه، والمؤكد أنَّه رأى من مكانه ما لا يستطيع غيره أن يراه، وحين قيل إنَّ استقالته كانت لأسباب صحية، فإنَّ الحديث عن أسباب صحية وراءها كان أقرب إلى اللغة الدبلوماسية في التعبير عن حقيقة أسبابها منه إلى أي شيء آخر!
وسواء كانت الاستقالة لأسباب صحية كما قيل عنها في حينها، أو كانت لأسباب غير صحية وهذا هو الراجح، فالرجل قد حاول قدر إمكانه ثم مضى تاركاً الفرصة لمبعوث آخر، ربما ينجح في إنجاز ما لم يفلح فيه المبعوث السابق عليه!
ومن بعده ترددت أسماء كثيرة لتأتي في مكانه، وكان الدبلوماسي الجزائري رمطان لعمامرة من بين الأسماء التي جرى ترشيحها والإعلان عن أنها أقرب إلى المنصب، ولكن الاسم صار محل رفض في النهاية، وقد قيل وقت استبعاد اسمه إن سبب استبعاده هو اعتراض الولايات المتحدة عليه!
ولم يذكر أحد شيئاً عن سبب اعتراض واشنطن على اسم لعمامرة، ولن يقال مثل هذا السبب في الغالب، رغم أن رجلاً مثله كان يملك ميزة لا يملكها كل المبعوثين الستة الذين سبقوه، بمن فيهم الدكتور سلامة نفسه. هذه الميزة هي أن جزائرية لعمامرة كانت ستجعله أحرص الناس على أن يقدم شيئاً حقيقياً يعيد الهدوء والاستقرار إلى الأراضي الليبية!
أما لماذا كان سيحرص على ذلك أكثر من غيره، فلأن الجزائر ترتبط مع ليبيا بحدود طويلة مباشرة، وهي واحدة من الدول الست التي تحيط بالوطن الليبي من ثلاث جهات كأنها السوار يلتفّ حول المعصم، وهذه الدول الست هي: مصر، والسودان، وتشاد، والنيجر، وتونس، ثم الجزائر طبعاً!
ومن الطبيعي أن دول الجوار المباشر لأي دولة، هي أول الدول التي تعاني، إذا ما طرأ عدم الاستقرار على أرض هذه الدولة!
وفي الحالة الليبية، فإن وزراء خارجية مصر والجزائر وتونس كثيراً ما التقوا على طاولة واحدة، وفي كل مرة كان العنوان في لقائهم هكذا: اجتماع وزراء خارجية دول الجوار مع ليبيا. وكان الموضوع المطروح على الطاولة هو البحث عن سبيل يعود من خلاله الهدوء إلى الأرجاء الليبية على اتساعها، وكان ذلك أملاً يراود ليبيا بمثل ما يراود دول جوارها ولا يزال!
وكان المقصود بالجوار المباشر في حالة هؤلاء الوزراء الثلاثة كلما اجتمعوا هو الجوار العربي إلا قليلاً، لأن جواراً آخر كان يمتد حول ليبيا، وكان يضم ثلاث دول أخرى أشرت إليها حالاً، وكانت واحدة من بينها دولة عربية اللسان هي السودان!
أعود فأقول إن جزائرية لعمامرة كانت ترشحه لأداء دور مختلف لإنجاز الحل السياسي في المسألة الليبية، بحكم أنه يرى أكثر من المبعوثين الستة السابقين، عواقب عدم استقرار الليبي على بلاده، ويرى في الوقت ذاته حصيلة الاستقرار عليها!
إنني أخشى أن يكون هذا السبب بالذات من بين أسباب استبعاد اسم الرجل، وربما يكون في المقدمة من بين تلك الأسباب التي لا نعلمها، وإذا صح أن هذا السبب كان من بين استبعاد الاسم، وهذا ما سوف تكشف عنه الأيام وحدها، فإن مرجع ذلك سيكون إلى أن «الإرادة الدولية» للوصول إلى حل سياسي في ليبيا لم تكن تتوفر عند ترشيح اسم لعمامرة خلفاً لغسان سلامة، وإذا كنت قد وضعت العبارة من جانبي بين أقواس فلأنني أريد أن ننتبه إلى ضرورتها فلا نمر عليها عابرين!
فهذه الإرادة الدولية هي بمثابة السر الذي إذا توفر لأي قضية دولية أو إقليمية، وجدت طريق حلها من دون جهد كبير ولا وقت طويل، وإذا لم تتوفر رأيت القضية تدور في مكانها، ولا تقطع خطوة إلى الأمام إلا وترجع في مقابلها خطوتين وربما أكثر إلى الوراء!
لقد التقت الأطراف السياسية الليبية في حوار ممتد جرى مؤخراً، وكان الحوار يجري في طنجة المغربية مرة، ثم على أرض تونس في الجوار مرة ثانية، وفي الحالتين كانت الأطراف كلها أقرب ما تكون إلى التوافق حول حل يطلق الانتخابات في ليبيا آخر العام المقبل!
ولكن لأن الإرادة الدولية التي هي السر في الموضوع، لم تكن تتوفر بشكل كامل فيما بدا، فإن الأطراف الملتقية لم تكن تكاد تتفق، حتى تعود إلى المربع الأول في نقاش حول نقاط الاختلاف من جديد!
وكان الأمل أن يكون هذا السر ورقة جاهزة في جيب ستيفاني ويليامز، التي تولت رئاسة البعثة الأممية بالإنابة في مرحلة ما بعد غسان سلامة، ولو كانت هذه الورقة جاهزة في جيب ويليامز، لكان الحل المنتظر قد اهتدى إلى سبيله في طرابلس وفي غير طرابلس من المدن الليبية!
إن نظرة بأثر رجعي إلى ما كان يقوله غسان سلامة طوال وجوده لأداء مهمته فوق الأراضي الليبية، تشير إلى أنه كان يبحث عن مثل هذه الورقة غير المرئية من دون جدوى، وكان يفتش عنها في كل عاصمة من عواصم القرار الكبرى في المنطقة وفي العالم معاً، وكان منتهى أمله أن يجدها فيؤدي المهمة التي تمنى لو نجح فيها، لولا أن الأماني وحدها لم تكن كافية!
إن ليبيا لا تحتمل انتظار مبعوث ثامن، فضلاً عن أن تنتظر مبعوثاً عاشراً، ولا المنطقة من حولها تحتمل انتظاره، وإذا احتملت فسوف يكون ذلك خصماً من أعصاب الناس ومن أعصاب غير الناس في ليبيا وفي محيطها بالتوازي!