بقلم - سليمان جودة
إذا سدد فريق رياضي هدفاً في مرمى الفريق المنافس في غير الوقت الأساسي للمباراة، فإن مثل هذا الهدف يوصف في العادة بأنه هدف جرى إحرازه في الوقت الضائع.
أما تقدير حجم مثل هذا الوقت الضائع فيجري من جانب حَكَم المباراة، على أساس ما يراه من مساحة زمنية ضاعت على الفريقين في أثناء الشوطين لأسباب مختلفة، وهو وقت يختلف طبعاً من مباراة إلى مباراة، ولا يمكن الحديث عن تقدير ثابت له في أرجاء الملاعب.
وبالقياس... يمكن الحديث عن وقت ضائع في الولايات المتحدة، وعن أهداف يجري تسديدها في هذا الوقت ما بين رئيس مقبل وآخر على وشك المغادرة!
وهو في الحالة الأميركية ليس وقتاً ضائعاً بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه مشابه للوقت المماثل في مباريات الساحرة المستديرة، لأنه في الحالتين، حالة كرة القدم وحالة الفترة المتبقية للرئيس المنتهية ولايته، يمثل اللحظات التي بعدها ينسدل الستار على المشهد بكامله.
هو في كرة القدم ليس سوى دقائق معدودة على أصابع اليد الواحدة، وقد يمتد إلى ما يساوي عدد أصابع اليدين بالكاد، ولكنه في الحالة السياسية الأميركية يصل إلى ما يقرب من 3 أشهر، يقع أولها عند الثلاثاء الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) على رأس كل فترة رئاسية، فهذا هو الموعد الثابت لإجراء الانتخابات، وينتهي أمدها في 20 يناير (كانون الثاني)، وهذا بدوره هو الموعد الثابت أيضاً، الذي يتسلم فيه الرئيس المنتخب مقاليد الحكم من الرئيس المنتهية ولايته. وتترقب واشنطن هذه العملية من التسليم والتسلم كل 4 سنوات بالتمام، وبالدقة التي تعرفها ساعة سويسرية. إنها عملية تجري بانتظام لا تتخلف عن موعدها تحت كل الظروف، بحيث يستطيع العالم أن يضبط ساعته عليها، وهو مطمئن إلى سلامة الساعة وانتظام دورانها.
وقد كان أمد الأشهر الثلاثة يطول في الماضي حتى يصل إلى 4، عندما كان حفل التسليم والتسلم يقام في 4 مارس (آذار)، فلما أدخلوا التعديل العاشر على الدستور الأميركي في عام 1933، اختصروا المسافة التي يتعين على الرئيس الجديد أن ينتظرها للدخول إلى البيت الأبيض!
وبمنطق أي شخص يتهيأ لمغادرة منصبه في العموم، فإن الرئيس المنتهية ولايته لن يلام خلال هذه الفترة الضائعة بين ولاية رئاسية توشك على الانتهاء، وبين ولاية أخرى تخطو نحو بدايتها، إذا مال إلى الراحة والاسترخاء، تاركاً كل شيء للقادم من بعده يفعل هو ويقرر هو.
ولكن هذا المنطق لا تقع له على أثر في توالي الفترات الرئاسية الأميركية، بعضها من وراء بعض، ولا في حالة الرئيس دونالد ترمب بالذات.
وربما يذكر الذين تابعوا أجواء رحيل الرئيس باراك أوباما عن منصبه في ختام 2016 ومطلع 2017، أنه كان يتصرف في وقته الضائع، وكأنه مقيم في مكتبه البيضاوي لسنوات مقبلة، رغم أن رحيله عنه كان مسألة أسابيع لا أكثر، إننا نذكر كيف أنه كان يروح ويجيء ويقرر ويزور عواصم خارج بلاده، وكأن ترمب الفائز وقتها ليس واقفاً على رصيف البيت الأبيض ينتظر!
وقد بلغ انخراط أوباما في عمله وقتها، إلى حد أن هناك من راح يهمس بأن الرجل لا يفكر في ترك البيت الأبيض، وأنه ربما يفكر في تعديل الدستور بما يمنحه فرصة مضافة. قيل هذا بالفعل، ولو على سبيل البحث عن تفسير لما كان يفعله الرئيس السابق ويمارسه في العلن.
ولكن الأمر مع ترمب اختلف هذه الأيام بشكل لافت، لأننا عشنا على طول الفترة القصيرة السابقة على إجراء انتخابات الرئاسة الأميركية نقول إن ما يقوم به الرئيس وقتها إنما يهدف إلى الترويج لنفسه مرشحاً في سباق رئاسي كان يتنافس فيه مع بايدن.
عشنا نقول هذا ونراه، وبالذات على مستوى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبين عدد من العواصم العربية، وكنا نرى أن ما يبادر به ترمب في هذا الاتجاه ليس لوجه الله، ولا لوجه تل أبيب التي يخطب ودها كل ساكن في البيت الأبيض، من أول هاري ترومان الذي كان رئيساً يوم قامت الدولة العبرية في 15 مايو (أيار) 1948، إلى الرئيس ترمب الذي لا يزال يحدوه الأمل في البقاء!
لم يكن ترمب يسعى بالتطبيع بين إسرائيل وبين دول في المنطقة لوجه أحد ولا لوجه شيء، ولكنه كان يخاطب الناخب الأميركي خصوصاً، وجماعات الضغط اليهودية على نحو أخص، أو هكذا كان بعضنا يتصور ويرى، وهو يتابع سعياً ترمبياً محموماً في هذا الاتجاه!
وحين جرى الإعلان عن توجهات الناخبين اليهود في صندوق الاقتراع فيما بين ترمب وبايدن، تبين أن 77 في المائة منهم صوتوا لبايدن، وكانت هذه مفاجأة لكثيرين، بمثل ما لم تكن مفاجأة لآخرين يعرفون أن اليهود في الولايات المتحدة عاشوا تاريخياً أقرب إلى الحزب الديمقراطي، منهم إلى الحزب الجمهوري الذي رشح ترمب!
ومن الواضح أن الرئيس المنتهية ولايته كان يدرك هذه الحقيقة التاريخية جيداً، وكان وهو يقدم الهدية بعد الهدية إلى الإسرائيليين طوال سنواته الأربع، يتمنى لو نجح في تعديل مزاج الناخب اليهودي في شتى الولايات، لعله يصوت له هو، لا لبايدن!
ولم تفلح محاولاته كلها في فعل شيء، رغم أن الذين سيأتون لاحقاً للتأريخ لسنوات ترمب في الرئاسة، سيكشفون عن أنه قدّم لإسرائيل ما لم يقدمه رئيس أميركي آخر، بمن فيهم ترومان نفسه الذي اعترف بها لحظة الإعلان عن قيامها.
لكن يبدو أنها عقيدة سياسية لدى الناخب اليهودي الأميركي إزاء الحزب الديمقراطي، مهما قدّم الرئيس الجمهوري من هدايا سياسية طيلة أعوامه الأربعة أو الثمانية.
كان مفهوماً بالطبع أن يجتهد ترمب في منح هداياه إلى تل أبيب، في مرحلة ما قبل 3 نوفمبر، أملاً في أن يمارس قدراً من التأثير على مثل هذا الناخب، ولو بقدر ضئيل، وكان مفهوماً أن تكون محطات التطبيع بين إسرائيل وبين 3 من عواصم العرب هي آخر وأقوى هداياه!
كان هذا مفهوماً في حالة تطبيع العلاقات بين تل أبيب، وبين أبوظبي والمنامة والخرطوم، فالحالات الثلاث كانت قبل 3 نوفمبر، وكلها كانت رهاناً من ترمب على أن ما أطلقه من علاقات على مستواها مع إسرائيل سوف يصب بالضرورة في صندوقه الانتخابي.
وهذا ما لم يحدث حسب استطلاع الرأي الذي قامت به منظمة «جي ستريت» الأميركية التي رصدت التصويت الأميركي اليهودي، فكشفت في حصيلته النهائية عن توجه سياسي تاريخي لا يتبدل لدى الغالبية من يهود الولايات المتحدة.
لكن الرئيس المنتهية ولايته لم يتوقف عن تقديم الهدايا إلى إسرائيل حتى فيما بعد 3 نوفمبر، وحتى بعد أن صار إلى ما يشبه اليقين من خسارته، وقد كان اعترافه بالسيادة المغربية الكاملة على إقليم الصحراء، وإشرافه المباشر على إطلاق العلاقات بين المغرب وبين إسرائيل، من نوع الأهداف التي يجري إحرازها في الوقت الضائع بلغة كرة القدم.
فما الذي كان بالضبط يراوده وهو يمارس إشرافه المباشر بين العاصمتين؟! أظن أنه كان يراهن على كسب آخر دعاواه أمام القضاء، وأظن أنه كان يعلن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الرباط وتل أبيب، وهو يأمل في أن تسعفه المحكمة العليا التي نظرت في دعواه، فلما خسر القضية لم يتردد في القول إن المحكمة خذلته، وإن قضاتها افتقدوا الحكمة والشجاعة!
ما بعد 3 نوفمبر في عرف ترمب ليس وقتاً ضائعاً كما قد يبدو من اسمه، لأنه وقت الإمساك بآخر أمل في التعلق بآخر طوق نجاة، ولأنه وقت إحراز الأهداف التي فات الرئيس المنتهية ولايته أن يحرزها في الوقت الأصلي للمباراة.