بقلم: سليمان جودة
قرَّر ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، حضور القمة العالمية للمناخ في شرم الشيخ، بعد أن كان قد اعتذر عن عدم الذهاب، وبعد أن كان قد أثار تساؤلات عن دواعي الاعتذار التي لم تكن واضحة بما يكفي، ولكن المهم في النهاية أنه تراجع وحضر!
ولا تعرف ما إذا كان حضوره رداً على قرار بوريس جونسون الحضور، أم أنه اتخذ قراره لأنه لا يليق أن تكون بريطانيا هي رئيسة النسخة السابقة من القمة في مدينة غلاسكو البريطانية، ثم لا يحضر رئيس حكومتها النسخة الجديدة في شرم؟!... لا تعرف... ولكن ما نعرفه أنه بدا متردداً منذ البداية، ثم حسم أمره ولم يشأ أن يترك جونسون يستحوذ وحده على أضواء الكاميرات.
وقد قيل كل شيء عن هذا الرجل منذ أن تسلم منصبه في 10 داونينغ ستريت، خلفاً للسيدة ليز تراس التي غادرت رئاسة الحكومة بعد 45 يوماً لا غير.
قيل عنه إنه هندي وصل إلى أعلى منصب رسمي في بلاد الإنجليز، وقيل عنه إنه هندوسي الديانة، وقيل عنه إنه ملياردير يملك الكثير من المال، وقيل عنه إن ثروته تفوق ثروة الملك تشارلز الثالث شخصياً، وقيل عنه إنه حصل على نوع من التعليم الراقي، سواء في جامعة أوكسفورد، ذات السمعة العالية بين جامعات الدنيا، أو في واحدة من جامعات الولايات المتحدة التي لا تقل عن أوكسفورد.
وقيل عنه إنه متزوج من سيدة هندية لا تقل ثراءً عنه، وتنافسه في عضوية نادي المليارديرات، حتى تكاد عضويتها تسبق عضويته.
وما قيل عنه وعن زوجته مما أشرت إليه، ليس من قبيل الشائعات التي قد يطلقها الخصوم، ولكنه يقع في باب الحقائق الثابتة، وما قيل عن ثروته مثلاً كان بالجنيه والبنس، ولم يكن كلاماً مرسلاً يقال دون أن يكون واقفاً على أرضية قوية.
قيل عنه الكثير، وعن خلفيته العلمية، أو السياسية، أو المهنية، ولكن رغم أهمية هذا كله عند تقديم سوناك إلى الذين لا يعرفونه، أو إلى الذين يسمعون اسمه للمرة الأولى، فإنه يتبقى شيء آخر تماماً عن الخلفية التاريخية بين بلاده وبين بريطانيا، ثم عن حاضر هذه الخلفية ومعناها في اللحظة التي دخل فيها الرجل مقر الحكومة في عنوانها الشهير.
الخلفية التاريخية تقول إن بريطانيا احتلت الهند سنوات طويلة، وتقول إن الهنود قاوموا هذا الاحتلال بكل ما لديهم من طاقة ممكنة، وقد خرج البريطانيون في آخر مشوار المقاومة، وحصلت الهند على استقلالها الكامل، وصارت تجلس إلى جوار بريطانيا في منظمة الأمم المتحدة رأساً برأس.
ولا تكتفي نيودلهي بالجلوس إلى جوار لندن في الأمم المتحدة، ولكنها تتطلع إلى يوم تكتسب فيه حق اليتو في مجلس الأمن، الذي لا تتمتع فيه بهذه العضوية سوى خمس دول بينها بريطانيا.
والخلفية تقول، إن المهاتما غاندي قاوم الاحتلال الإنجليزي بنوع جديد من المقاومة، نوع لم يعرفوه في كل المستعمرات التي ذهبوا إليها، وحصلوا على خيراتها، ووظفوها لصالح اقتصاد بريطانيا العظمى، التي لم تكن الشمس تغرب عنها في تلك الأيام.
والخلفية تقول، إن مقاومة غاندي للاحتلال كانت بسلاح العصيان المدني، وإن بريطانيا العظمى لم تعرف هذا السلاح من قبل، وإنه سلاح أثبت كفاءته وجدارته، وإنه لسهولته كان متاحاً في يد كل هندي، وإن الإنجليز لم يجدوا أمامه سوى التسليم باستقلال الهند والرحيل عنها.
هكذا قاوم غاندي الذي كان هندوسياً يحمل الديانة نفسها التي يحملها ريشي سوناك، والذي كان قد ذهب إلى لندن لفترة يدرس خلالها القانون، ولكن بغير أن تراوده أحلام الثراء العريض التي عرفها سوناك، وعرفتها معه زوجته في نادي الثراء.
خرج الإنجليز أمام عصيان غاندي، ولكن الهنود لم ينسوا في أي يوم أن احتلالاً إنجليزياً كان هنا، وأنه استغل خيرات البلاد وموادها الخام كما لم يستغلها طرف سواه، وأنه غادر مضطراً أمام العصيان التي اتسعت رقعته فلم تترك له بديلاً عن المغادرة.
ولم يكن أقرب إلى سلاح العصيان المدني في الهند، إلا سلاح المقاطعة في مصر، الذي اعتمده المصريون في التعامل مع الإنجليز أنفسهم خلال مرحلة من مراحل المقاومة، وربما لهذا السبب قال غاندي وهو في طريقه إلى جنوب أفريقيا ذات يوم، إنه تعلم من كثيرين في حياته، ولكن سعد باشا زغلول زعيم ثورة 1919 المصرية كان في المقدمة من أساتذته في السياسة وفي الحياة.
والأرجح أن الهنود من بعدها فكروا في هذه الخلفية بين بلادهم وبين الإنجليز، والأرجح أيضاً أنهم انشغلوا بها، وقرروا بينهم وبين أنفسهم أن يستحضروا الخلفية القديمة بين البلدين، ولكن بطريقة جديدة لا احتلال فيها بالجنود ولا بالسلاح.
قرر الهنود دون اتفاق مكتوب بينهم أن يعودوا إلى بريطانيا في حركة احتلال معاكسة، وأن يكون ذلك من خلال تواجدهم في مواقع العمل المتنوعة، وأن يزرعوا أنفسهم في كل مجال تقريباً، وألا يخلو منهم ميدان من ميادين العمل في لندن بالذات، ثم في غيرها من المدن البريطانية. صحيح أن لندن تمتلئ بالجاليات من كل جنسية، ولكن الجالية الهندية ليست ككل الجاليات، وليست هناك جالية أخرى تستطيع أن تجاريها في العدد، ولا في المواقع العملية التي تتواجد فيها، ولا في مراكز التأثير الاقتصادي التي تحتلها.
فهذه مراكز تتوزع بين البنوك الكبيرة، والشركات الشهيرة، والمؤسسات التي سبقوا إليها وتولوا فيها مواقع متقدمة لا يتولاها غيرهم.
ولو أنت دخلت مطعماً لندنياً على سبيل المثال، فسوف تلاحظ بالعين المجردة، أن العاملين فيه إذا كانوا عشرة أفراد، فثمانية منهم على الأقل من الهنود، وسوف تتساءل بينك وبين نفسك بالضرورة، عما إذا كنت في بريطانيا أم في الهند، وما إذا كنت تتناول طعامك في مطعم هندي أم في مطعم بريطاني؟!
وما تلاحظه في المطاعم، ستجده على مستوى سائقي التاكسي والأوبر، وستجده في المقاهي، وستجده في الكثير من محال البيع والشراء، وفي كل مكان تتعامل فيه مع بشر في عاصمة الضباب، فالتواجد الهندي لم يتوقف عند حدود البنوك، والشركات، والمؤسسات، وإنما تجاوزها إلى كل ميادين الحياه.
وعندما صعد سوناك إلى رئاسة الحكومة، كان صعوده علامة على أن الاحتلال المعاكس شمل الاقتصادي مع السياسي، ولم يتوقف قطاره المنطلق عند حدود ما هو اقتصادي في شتى وجوه العمل. وإذا كان الوجود الهندي في بريطانيا سابقاً بالطبع على وصول رجل هندي إلى رأس الحكومة، فوصوله هو عنوان عريض لهذا الوجود بكل مجالاته وبكل معانيه.
وما يستوقفك فيه أنه وجود يتغلغل ويتسع نطاقه وينتشر، ولا يستثني أرضاً لا يتواجد فيها، وكأنه احتلال يسيطر على الأرض أول ما يسيطر ليضمن طول البقاء، ولكنه احتلال من نوع فريد، احتلال ليس في يده سلاح، ولا هو قادم فوق ظهر دبابة، احتلال بالعقول التي تبدو وكأنها تثأر سلمياً لاحتلال بريطاني في الهند من قبل، احتلال سلمي ناعم في مقابل احتلال سابق كان يسيطر بالقنابل والبارود.
ويبدو أن الموضوع أوسع نطاقاً من بريطانيا، والدليل أن كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأميركي جو بايدن، أمها هندية لحماً ودماً!