بقلم - سليمان جودة
عاش الإمام الشافعى يتنقل بين أكثر من بلد، ولكن الحقيقة الباقية أن مولده كان فى أرض غزة، وأن مماته كان فى أرض المحروسة.
والشىء المدهش فى سيرته كلها أنه رحل فى الرابعة والخمسين، وأنه عاش منها خمسين سنة فى القرن الثانى الهجرى، وأربع سنوات فى القرن الثالث.. ولا بد أن كثيرين سوف يتساءلون: كيف أنجز الرجل هذا كله فى هذه السنوات القليلة؟!.
هذا ما يخص حياته.. أمام ما يضعه فى إطار واحد مع بقية الأئمة الأربعة فهو شىء أغرب، لأنهم تتابعوا فى الحياة وفى الممات، وكأنهم كانوا على موعد للظهور فى فترة زمنية واحدة، ثم الاختفاء خلال الفترة الزمنية نفسها، التى لا تكاد تزيد على القرن ونصف القرن.
فالأول منهم جاء إلى الدنيا قبل انتهاء القرن الهجرى الأول بعشرين سنة، والرابع غادرها فى ٢٤١ من الهجرة، وفيما بين التاريخين عاشوا جميعاً وماتوا، فكأنهم تعاهدوا على أن يظهروا ويختفوا بين هاتين السنتين.
كل هذا الفقه الذى ملأ الدنيا ظهر متتالياً دون انقطاع، بل إن بعضهم عايش البعض الآخر وراسله فى حياته وأخذ منه وأعطاه.
وإذا تأملت المواقع التى جاءوا فيها إلى الدنيا على الخريطة، ستكتشف أنهم رسموا فى الميلاد والممات ما يشبه الدائرة، وأنهم عاشوا فى داخل هذه الدائرة، من أول الإمام الأعظم «أبو حنيفة النعمان» الذى ظهر فى البصرة، ثم الإمام «مالك» فى المدينة المنورة.
ومن بعده الشافعى فى أرض فلسطين، ثم الإمام «أحمد بن حنبل» الذى أغلق الدائرة عندما ظهر فى العراق.. وهكذا يتصل محيط الدائرة ويكتمل، وهكذا يدور الأربعة ويتحركون فى داخل إطارها، وكأنهم ذرات حائرة فى داخل الخلية الحية.
وقد اشتهر كل واحد من الأربعة بفقهه الخاص، إلا الإمام الشافعى الذى اشتهر بفقهين: واحد فى العراق حيث ذهب ذات يوم واستقر لفترة، وآخر فى مصر حيث جاء ليعيش ويموت.. ولا تعرف لماذا ترك فقهاً فى هذين البلدين وفقط؟.
فلقد ذهب إلى اليمن فيما ذهب، وسافر إلى الجزيرة العربية فيما سافر، واستقر فيهما سنوات، ولكنه لم يشأ أن يترك فقهاً فى اليمن، ولا ترك فقهاً فى الجزيرة، وإنما كان الفقه هنا فى بلاد النيل، وهناك فى بلال الرافدين.. دجلة والفرات.