بقلم - سليمان جودة
من حُسن الطالع أن تستقبل القاهرة فيصل المقداد، وزير الخارجية السورى، فى العاشر من رمضان، الذى يبقى يومًا من أيام الجيشين المصرى والسورى على السواء.
ففى هذا اليوم من عام ١٩٧٣ حقق الجيشان نصرًا كان كل عربى فى انتظاره، ومن بعدها ظل العاشر من رمضان ومعه السادس من أكتوبر ذكرى عطرة يتجدد معها الأمل ولا تغيب فى كل سنة.
وقد كنت أتابع نبأ زيارة المقداد، وأنا أتذكر يومًا كان فى قاهرة المعز سفير سورى اسمه عيسى درويش، وكان الرجل يملأ الأجواء فى المحروسة، ليس فقط بدبلوماسيته التى كان يمارسها باحتراف، ولكن بشاعريته التى كان ينشرها فى كل مكان.
كان شاعرًا بقدر ما كان سفيرًا، وكان يمشى على طريق نزار قبانى الذى جمع ذات يوم بين الشعر والدبلوماسية، والذى غادر العمل الدبلوماسى متفرغًا لشاعريته العالية.. وحين جلس نزار يكتب سيرته الذاتية قال إنه وضع شهادة القانون التى حصل عليها فى الغسالة، وإنه ترك القانون يتفاعل مع الصابون!
كانت السفارة السورية فى شارع عبدالرحيم صبرى باشا فى الدقى، وكان هذا الشارع يفصل بينها وبين قصر بدراوى باشا عاشور، حيث مقر جريدة وحزب الوفد، وكنت أعبر الشارع لأشرب القهوة مع السفير درويش وأستمع إلى بعض أشعاره، ثم أعبره مرةً ثانية لأعود إلى الجريدة.
كان عيسى درويش يتواجد فى كل مناسبة عامة، وكان شاربه الأسود الذى يتهدل على فمه، يجعل شكله أقرب ما يكون إلى الشعراء الروس الذين كنا نحفظ أشعارهم ونتعرف على أشكالهم من شواربهم المميزة، وكانت زوجته السيدة فضيلة حاضرة فى كل صالونات المجتمع ومناسباته.
وقد ذاعت شهرة الرجل فى القاهرة، بدبلوماسيته مرة، وبشاعريته مرةً ثانية، وكلما مررتُ هذه الأيام على مبنى السفارة تساءلت بينى وبين نفسى: المبنى هو المبنى، ولكن أين عيسى درويش؟!.. وجاء عليه يوم غادر فيه القاهرة وانقطعت أخباره مع اشتعال ما يسمى الربيع العربى فى سوريا وفى غيرها، وجاء من بعده السفير يوسف أحمد، الذى بقى قليلاً ثم غادر هو الآخر، ثم توارت أخبار السفير والسفارة.
وحين أطل المقداد علينا، فإنه أحيا آمالاً عريضة فى أن تعود أيام عيسى درويش، وأن تضىء السفارة من جديد، وأن تعود سوريا إلى مصر وتعود مصر إلى سوريا.. وبتعبير نزار: يعود الطائر إلى عُشه ويعود الطفل إلى حضن أمه.