تفصيلة في عاصمة الضباب بين تفاصيل

تفصيلة في عاصمة الضباب بين تفاصيل

تفصيلة في عاصمة الضباب بين تفاصيل

 العرب اليوم -

تفصيلة في عاصمة الضباب بين تفاصيل

بقلم - سليمان جودة

تستطيع أن تقول عن السيدة ليز تراس، المستقيلة من رئاسة حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا ومن رئاسة الحكومة بالتالي، إنها سيدة مسكينة لا شك، وإنها تستحق الإشفاق أكثر مما تستحق أي شيء آخر، وإن حظها ساء كما لم تكن تتحسب أو تتوقع.
تستطيع أن تقول هذا عنها، فلا تكون قد ابتعدت عن وصف واقع الحال، ولا تكون قد وصفتها بغير ما هي عليه منذ أن خرجت على مواطنيها تعلن استقالتها من رئاسة الحزب، ومنذ أن قالت في خطاب الاستقالة إنها ستبقى على رأس الحكومة، إلى أن يختار الحزب زعيماً آخر يجلس في مكانها في 10 داونينغ ستريت، حيث مقر رئاسة الحكومة الشهير.
فالمسكينة كان عندها أمل في أن تجلس إلى جوار مارغريت ثاتشر مرة، ثم إلى جوار تريزا ماي مرة ثانية، كونهما المرأتين الوحيدتين اللتين سبقتاها إلى منصبها. كان هذا هو أملها الكبير، لولا أنها سرعان ما وجدت نفسها خارج المنصب في لحظة، ولولا أنها سرعان ما تبين لها أن مغادرتها هي الحل الوحيد، ولولا أنها سرعان ما قررت المغادرة رغم أنها لم تمكث في منصبها، منذ استقرت على مقعدها إلى يوم الإعلان عن الاستقالة، أكثر من شهر ونصف الشهر!
تستطيع أن تصفها بالمسكينة، ولكنك في الوقت ذاته لا تستطيع أن تجردها من الشجاعة، ولا تستطيع أن تصفها إلا بأنها امرأة شجاعة رغم كل شيء.
إنني أراها شجاعة لسبب محدد سأذكره حالاً، رغم أن ما قالته على مدى الشهر ونصف الشهر لا يجعل أحداً منا في المنطقة العربية بالذات يتعاطف معها، ولا أن يراها مسكينة، أو مغلوبة على أمرها، أو حتى تستحق الإشفاق في لحظة ضعفها السياسي الشديد.
لا تتعاطف معها لأنها ما كادت تجد نفسها على باب 10 داونينغ ستريت، حتى راحت تردد أنها تفكر في نقل سفارة بلادها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس. وقد كانت هذه بداية سيئة لامرأة مثلها كانت في غنى عن كسب الخصوم هكذا منذ اللحظات الأولى.
ولا تتعاطف معها لأنها ما كادت أيضاً تستقر على مقعدها في رئاسة الحكومة، حتى انتشر لها مقطع فيديو على مواقع التواصل تقول فيه على سبيل التباهي إنها صهيونية كبيرة!
ولا بد أنها كانت حرة في أن تفكر في نقل سفارة بلادها إلى حيث تشاء، أو في أن تتباهى بأنها صهيونية كبيرة أو حتى صغيرة، ولكن مثل هذه الأمور في دولة عريقة في تجربتها الديمقراطية مثل بريطانيا، لم تكن في أي يوم تؤخذ بهذه الدرجة من الخفة، والاندفاع.
والغالب أن الذين ساءهم حديثها في قضية نقل السفارة، وفي شأن صهيونيتها الكبيرة، قد وجدوا عزاءهم في قرار الحكومة الأسترالية العودة عن قرار اتخذته الحكومة السابقة عليها بنقل سفارة أستراليا من تل أبيب إلى القدس. لقد تزامن حديث تراس عن السفارة وعن صهيونيتها مع قرار الحكومة الأسترالية، وكأن هذا القرار جاء على سبيل التعويض من السماء للذين تألموا مما قالته تراس من دون تفكير في عواقبه!
في الحالتين لم تكن هي تساعد أحداً في المنطقة ليتعاطف معها عندما سقطت من موقعها، وعندما لم تعمر فيه، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بشجاعتها التي بدت في عبارة ذكرتها في خطاب استقالتها، وفي إقدامها على الاستقالة حين لم تجد مفراً منها أمامها.
فهي لم تشأ أن تلف ولا شاءت أن تدور في الخطاب، ولكنها ذهبت إلى موضوعها من أقصر طريق فقالت إنها لا تستطيع متابعة مهامها!
ولو شاءت لكانت قد اتهمت الظروف، ولكانت قد اتهمت الذين تآمروا عليها، ولكانت قد عاندت وساومت وطلبت فرصة أخرى، ولكانت، ولكانت. ولو فعلت لكانت قد وجدت من يلتمس لها العذر، ومن يدعو إلى أن تحصل على الوقت الكافي لتحقيق ما عاهدت نواب الحزب وقواعده عليه.
ولكنها نفضت هذا كله من رأسها، ورأت أن تتصرف بمسؤولية وشجاعة معاً، ولم تجد حرجاً في أن تعترف أمام قواعد الحزب ونوابه بأنها جاءت إلى المنصب لتباشر مهاماً محددة، وأن تجربة الشهر ونصف الشهر تقول إن هذه المتابعة من جانبها غير ممكنة!
وقبل أن تستقيل وتفاجئ الناس باستقالتها، كانت وزيرة داخليتها سويلا برافرمان قد سبقتها إلى الاستقالة أيضاً ولم تكن في استقالتها أقل شجاعة من رئيسة وزرائها.
كانت سويلا قد بعثت برسالة رسمية عبر بريدها الإلكتروني الشخصي، ورغم أن الرسالة كانت لزميل برلماني لها، فإنها استشعرت الحرج وأحست بأنها ارتكبت خطأ لا يجوز، فسارعت تعتذر وتتقدم بالاستقالة تعبيراً عن شعورها بالتقصير في عملها، وكان مما قالته في خطاب استقالتها أن واقعة البريد الإلكتروني مخالفة لقواعد فنية مستقرة، وأنها تجد في مغادرة موقعها اعتذاراً مناسباً عن المخالفة.
كان في مقدورها أن تجادل في الأمر، وكان في استطاعتها أن ترى في استخدام البريد الشخصي أمراً طبيعياً، ما دام متلقي الرسالة زميلاً في البرلمان، ولكنها فضلت أن تتصرف بشجاعة ومسؤولية، على أن تبرر ما يمكن أن يكون محل خلاف.
إننا نتحدث في مثل هذه الحالة بين تراس وبين سويلا، عن الطيور التي على أشكالها تقع، وعن الشخص الذي يميل إلى شخص يشبهه. وليس أشبه برئيسة الوزراء المستقيلة، إلا وزيرة داخليتها المستقيلة، فكل واحدة منهما تصرفت في الموقف الذي واجهته وكأنها كانت مع الأخرى على موعد.
ولا يخلو الأمر من كثيرين رأوا في استقالة سويلا قفزاً من مركب كانت تشرف على الغرق، وهروباً من سوء أحوال الاقتصاد في البلاد تأثراً بسياسات اقتصادية انتهجتها تراس. وقد يكون هذا صحيحاً بالنسبة لوزيرة الداخلية، ولكن الأصح منه أنها فضلت أن تتحمل مسؤوليتها عن تقصير رأت أنه وقع منها، ولم تفضل الهروب من المسؤولية التي عاهدت عليها نواب الحزب وقواعده!
لقد انشغل الجميع في لندن وفي خارجها برئيس الوزراء الجديد ريشي سوناك، وكيف أنه أول بريطاني من أصل هندي يدخل 10 داونينغ ستريت، وكيف أنه يعتنق الديانة الهندوسية، وكيف أن ثروته تفوق ثروة الملك تشارلز الثالث، وكيف وكيف إلى آخر ما قيل ولا يزال يقال عنه، ولم يعد أحد تقريباً يذكر تراس ولا سويلا، رغم أنهما بتصرفهما الشجاع كانتا التفصيلة الأهم في مشهد بريطاني كان يمتلئ بالتفاصيل.
أما لماذا كان تصرفهما المسؤول هو التفصيلة الأهم في مشهد سياسي بريطاني بدا مضطرباً ومرتبكاً، فلأن سوناك سوف يذهب ذات يوم كما ذهب الذين سبقوه إلى منصبه، وسينحسر حديث الأصول الهندية والهندوسية، وسيتوارى الكلام عن الثروة وعن رقمها، وفي المقابل ستبقى المواقف المسؤولة من نوعية موقف تراس وسويلا، وسيبقى ما يتجاوز مربع المنصب إلى دائرة الإحساس بالمسؤولية أمام الناس.
إنها تفصيلة تبدو صغيرة ضمن فيضان من التفاصيل في إطار واحد جمعها كلها، ولكن معناها أكبر من حجمها، وعمرها أطول من اللحظة التي خرجت فيها إلى النور، ومداها أبعد من الأفق الضيق الذي ظلمها فحشرها بين عشرات التفاصيل.

وإذا كان سوناك قد تعهد في أول خطاب له بعد أن تولى رئاسة الحكومة رسمياً بإصلاح أخطاء تراس على الفور، فهو قد يستطيع إصلاح كل ما ارتكبته طوال الشهر ونصف الشهر، إلا قرار استقالتها، الذي لم يكن خطأ ولكنه كان عين الصواب!

arabstoday

GMT 20:40 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

عندما يعلو صوت الإبداع تخفت أصوات «الحناجرة»

GMT 06:23 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

المبحرون

GMT 06:20 2024 الأربعاء ,10 تموز / يوليو

قرارات أميركا العسكرية يأخذها مدنيون!

GMT 06:17 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

تسالي الكلام ومكسّرات الحكي

GMT 06:14 2024 الخميس ,04 تموز / يوليو

كيف ينجح مؤتمر القاهرة السوداني؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تفصيلة في عاصمة الضباب بين تفاصيل تفصيلة في عاصمة الضباب بين تفاصيل



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 03:27 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

فلورنسا الإيطالية تتخذ تدابير لمكافحة السياحة المفرطة
 العرب اليوم - فلورنسا الإيطالية تتخذ تدابير لمكافحة السياحة المفرطة

GMT 13:23 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"
 العرب اليوم - رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"

GMT 22:43 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
 العرب اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 13:26 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
 العرب اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 05:58 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

من الرياض... التزامات السلام المشروط

GMT 07:03 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:26 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

ليفربول يُرهن ضم مرموش في انتقالات يناير بشرط وحيد

GMT 11:44 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

ارتفاع أرباح "أدنوك للإمداد" الفصلية 18% إلى 175 مليون دولار

GMT 13:23 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"

GMT 20:14 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد

GMT 04:27 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

باريس هيلتون تحتفل بعيد ميلاد ابنتها الأول في حفل فخم

GMT 06:49 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

موديلات فساتين زواج فخمة واستثنائية لعروس 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab