جاءت رئيسة المفوضية الأوروبية تزور لبنان، ومعها الرئيس القبرصي، وما إن عادا إلى أوروبا حتى تحولت زيارتهما إلى قضية في بيروت، ومع الوقت أصبحت القضية أقرب ما تكون إلى كرة الثلج، التي تكبر كلما تدحرجت، والتي تتضخم وتزداد تضخماً كلما مرّ عليها الوقت، وتفاعلت فيما حولها.
والقضية هي الهجرة غير الشرعية، التي أصبحت هاجساً لا يفارق الأوروبيين في يقظة ولا في منام، والتي جعلتهم ينتفضون لوضع حد لها عند الشاطئ الجنوبي من البحر المتوسط.
وهذا الشاطئ يمتد من جبال أطلس على أرض المغرب في أقصى الغرب إلى سوريا وتركيا في شرق البحر، وفيما بين الغرب والشرق يطول الشاطئ، ويمتد ويمر بدول كثيرة، ويختلف طوله في دولة عن الأخرى بالطبع، وربما تكون ليبيا هي صاحبة أطول الشواطئ، لأن نصيبها منه يصل إلى 2000 كيلو متر تقريباً.
ولأن دول شمال البحر معروفة بالرواج الاقتصادي على أرضها، ولأن دول جنوب البحر ليست كذلك في الأغلبية منها، فلقد كان من الطبيعي أن يكون البحر جسراً يحمل المتطلعين إلى الحياة، حيث ذلك الرواج في أوروبا.
ولا ننسى أن دول جنوب البحر في أفريقيا كلها دول عربية، ولكن الخلفية وراءها وصولاً إلى المحيط الهندي دول أفريقية غير عربية باستثناء موريتانيا والسودان، وهذه الدول الأفريقية ليست كلها سواء من حيث مستواها الاقتصادي، وفي عدد كثير منها تضيق فرص الحياة إلى الحد الطارد للشباب، وغير الشباب.
ولا يمكن للذين تضيق بهم الحياة في تلك الدول أن يصلوا إلى القارة العجوز في شمال البحر، إلا مروراً بجنوبه، وإلا من خلال شواطئ الدول العربية المطلة عليه، وهذا ما جعل عيون أوروبا تنفتح عن آخرها على هذا الشاطئ بالذات.
ورغم أن لبنان ليست في أفريقيا، ورغم أن هؤلاء الذين تطردهم فرص الحياة الضيقة في القارة السمراء لا يصلون إليها إلا في أقل القليل، إلا أن جوار لبنان المباشر مع سوريا جعل أعداداً كبيرة من السوريين يلجأون إليه، ويتخذونه ممراً أكثر منه مقراً.
ولأن قبرص أقرب دول أوروبا إلى لبنان، ولأن المسافة بينهما لا تتجاوز 180 كيلو متراً، فإن الأراضي القبرصية صارت هدفاً لكل لاجئ سوري أو غير سوري إلى لبنان، ومع الوقت أصبحت حلماً، ولم تعد مجرد هدف.
ولأن ما يسمى بالربيع العربي قد هاجم سوريا فيما هاجم من دول المنطقة في 2011 وما بعدها، ولأن بقاياه لا تزال قائمة تناوش وتتحرش، فإن الهاربين من سوريا من جحيم «الربيع» كانوا بالملايين، وكانت لبنان هي الأقرب لهم دائماً، وهؤلاء لا يقصدون قبرص في حد ذاتها عندما يقصدونها انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، ولكنهم يتخذونها ممراً إلى أوروبا الواسعة، ولا يفكرون فيها مقراً، وهذا ما يفعلونه بالضبط مع لبنان أيضاً إذا وصلوا أرضها ابتداء في أول الرحلة.
كل ذلك جعل الاتحاد الأوروبي يشعر بقلق شديد، ثم جعله يتخذ من الخطوات ما يرى أنه يحمي نفسه بها، وليست زيارة رئيسة مفوضيته إلى لبنان ومعها رئيس قبرص يداً بيد سوى خطوة من بين خطوات يتخذها كل يوم.
وقد جاءت رئيسة المفوضية وفي جيبها مليار يورو تعرضه على الحكومة في بيروت، وفي مقابل هذا المبلغ الذي سيجري دفعه بدءاً من هذه السنة إلى 2027 جلست رئيسة المفوضية، ومعها الرئيس القبرصي مع نجيب ميقاتي، رئيس الحكومة اللبنانية، وكان لهما طلب وحيد هو ضبط الهجرات غير الشرعية إلى الشواطئ القبرصية.
أما المعارضة في لبنان فلم تشأ أن تفوّت الفرصة، وانطلقت تتهم الحكومة بأنها تتقاضى رشوة من أوروبا في سبيل حراسة الشواطئ اللبنانية، فلا يتفلت منها أحد من المهاجرين، ولكن دولة الرئيس ميقاتي ضاق بالاتهام كثيراً، وساءه أن يقال عن حكومته إنها تحصل على رشوة أوروبية، فقام ينفي الاتهام عن حكومته ويدفعه، وقال إن ما عرضه الزائران الأوروبيان هبة غير مشروطة، وأنهما لم يعرضا رشوة «ولا يحزنون».
ولا يزال الهجوم سجالاً بين الطرفين في لبنان، وليس من الظاهر أنه سيهدأ في القريب، فالهجرة إلى لبنان لا تتوقف، والتطلع نحو أوروبا بين المهاجرين لا سقف له، والأوروبيون عازمون على وقف هذا التطلع عند حده بأي طريقة.