بقلم - سليمان جودة
يذكر الدكتور جلال السعيد، طبيب أمراض القلب الشهير، أن نشأته المبكرة كانت فى المنصورة، وأنه كان يقرأ لأبيه صحيفة «المصرى» فى كل صباح، وأنه أحب النحاس باشا لأن الوالد كان يحبه، وأن أمه نجحت فى تربية ثمانية أبناء بعد وفاة الأب، وأن ما فعلته الأم كان نوعًا من المستحيل.
يذكر هذا ثم يكرره فى سيرته الذاتية التى صدرت عن دار «نهضة مصر»، والتى اختار لها هذا العنوان: «اسمى جلال السعيد وتلك حكايتى».. ومن قبل اختيار العنوان كان قد اختار الدكتور علاء عمر، الطبيب والأديب، ليكتب السيرة عنه، فجمع الكتاب بين الحكاية المشوقة والأسلوب الجميل.
درس الطب فى قصر العينى، وطار إلى الولايات المتحدة يدرس علم القسطرة ويبحث فى أصوله، إلى أن صار واحدًا من أعلامه الكبار، وعندما كان يدرس فى جامعة بايلور سأله أستاذه: أين تعلمت يا جلال؟!.. أخبره أنه تعلم فى مصر، ولكن الأستاذ لم يكن يصدق، لأن تعليم الطالب جلال السعيد أمامه كان لا يقل عن تعليم إنجلترا!
وعندما انهزمت اليابان فى الحرب العالمية الثانية أمام الولايات المتحدة الأمريكية، سأل إمبراطورها هيروهيتو القائد الأمريكى المنتصر ماك أرثر: هل تعرف لماذا انتصرتم علينا؟!.. وقبل أن يجيب أرثر قال الإمبراطور: لأن تعليمكم الأساسى أفضل من التعليم الأساسى عندنا!
ولأن جلال السعيد درس وقت أن كان التعليم الأساسى يضم المرحلتين الابتدائية والثانوية فقط، ولأنه عرف التعليم الحقيقى فى تلك الفترة، ولأن تعليمه الأساسى هو الذى بناه فإنه يقول: المدارس الابتدائية هى التى تصقل الناس.. إنْ أردت صناعة آلاف الأبطال العالميين فى الرياضة، وأشخاص استثنائيين فى مجالات البحث العلمى، فعليك بالمدارس، خاصةً المدارس الابتدائية.
يذكر أنه دخل كلية الطب عام ١٩٥٢، ويذكر أن تراجع التعليم بدأ بعد ذلك بعامين، وكانت بداية التراجع فى قصر العينى عندما قررت الدولة زيادة عدد طلاب الدفعة من ١٨٠ طالبًا إلى ألف طالب، وقد استقال رئيس الجامعة أو أقيل، لأنه لم يوافق على ذلك واعترض، وكان اعتراضه لأن الزيادة تقررت بجرة قلم، وبدون أى إضافة فى إمكانيات الكلية!.. وفى المقابل، يروى فى كتاب السيرة أنهم فى جامعة بايلور طلبوا من رئيسها زيادة عدد الطلاب المقبولين فى الطب ٤ طلاب لحاجة أمريكا إلى الأطباء فرفض، وكان رده: أعطونى أربع سنوات أستعد خلالها لاستقبال الطلاب الأربعة!!
الدكتور جلال السعيد عاش هذا كله ورآه، وهو ينتهى فى سيرته إلى أن إصلاح التعليم هو المشروع القومى الأول الذى لا يجوز أن ينافسه مشروع قومى آخر.. وإذا شئتم أن تعرفوا السبب فارجعوا إلى حكاية القائد المنتصر والإمبراطور المهزوم، ففيها ما يُغنى عن كل شىء يمكن أن يُقال!.