بقلم : ناصر الظاهري
من الأشياء التي كانت تغضب السيدة «ماكلين»، وكانت تستغرب منها حين تعود من عملها، أنني أستحم، وأغسل شعري يومياً، حاولت أن تقنعني أن هذا غير صحي لا للجسد ولا للشعر، ثم إنها غير ملزمة بتنظيف «البانيو» كل يوم، كانوا يطلبون مني الحضور قبل عتمة الليل، لأن العشاء عندهم مقدس، وفي ساعة معينة، ولأنني كائن ليلي لم أتناول معهم طعام العشاء إلا مرتين رغم متعة الحديث وتشعبه معهم، والذي كنت فيه مجيباً، وهم السائلون دائماً عن الشرق والعرب والصحراء والبدو والجمل والمرأة والحجاب وتعدد الزوجات، وإن كان ثَمّ نفط في بيتنا، ففي عمري الصغير ذاك كنت مشحوناً بثقافة مبكرة وموسوعية بعض الشيء، وكانت مكتبتهم بها الكثير من الأعمال الأدبية العربية المترجمة، فعندهم تعرفت على «عمر الخيام» ورباعياته. ما كان يضايقني كثيراً من السيد «ديفيد» تدخينه الغليون ذا الرائحة العطنة، وذلك البلغم الذي أصحو على استخراجه يومياً من رئتيه وأحشائه، وتلك الفانيلة الصوفية القرمزية التي يرتديها كل يوم، وكنت باستطاعتي أن أعد تفتل صوفها الإنجليزي من كثرة الاستعمال، وتلك اللامبالاة من المرأة التي كانت تعتقد أنني أعرف كل شيء، فمدرستي عليّ الذهاب لها وحدي من أول يوم، و«الأندر كراوند» عليّ التعود على استعماله وفهمه من شرحها السريع بإنجليزية تشبه لغة مدرسات الصفوف المتوسطة في الريف الإنجليزي، وأن ملابسي عليّ غسلها وحدي في الغسالات العامة، والتي أراها لأول مرة في حياتي، وعدم اصطحاب ضيوف إلى غرفتي، والفطور بانتظام، وفي الوقت المحدد، وعدم استهلاك الكثير من الماء، وإذا كنت أريد التأخر، وعدم تناول العشاء عليّ إخبارها قبل ثلاثة أيام، وإن جئت متأخراً فعليّ أن أمشي على أطراف أصابعي، وغيرها من التعاليم والتي كانت تعتقد أنها تساوي الجنيهات العشرين التي أدفعها لها مطلع كل أسبوع.
ما كنت أشكو منه وخلال الأيام الأولى أنني لم أجد السكر على الطاولة، وكنت أخجل أن أسأل عنه، لقد عبثت بمطبخها بحثاً عن السكر فلم أجده، وظللت أتزعم ذلك الشاي الإنجليزي من دون سكر، أنا الذي كنت أستمتع بالحلاوة الزائدة، ولما طفح بي الكيل وعجزت خيلي من التفتيش في المطبخ، سألتها بصوت خافت: لماذا لا تستعملون السكر مع الشاي؟ فردت باستغراب، ولكننا نستعمله يومياً، وها هو أمامك، فجالت عيناي بسرعة على موجودات الطاولة فلم أره، فأشارت إلى قطع بنية اللون، فخجلت أن أقول لها إن سكركم غير عن سكر العرب، تلك القطع البنية أول مرة أراها في حياتي، سكر غير أبيض! يا للهول! لكنني فرحت كثيراً فقد كان الشاي بعد تلك المحادثة طيباً، وكما كنت أشتهيه دائماً، لكنها كانت حياة صعبة لطائر الليل الذي يعشق نهار المسافات!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد