بقلم - إنعام كجه جي
تحتفل «السينماتيك» الفرنسية بآنييس فاردا وتخصص لها معرضاً بعنوان «فيفا فاردا». مخرجة نسيج وحدها، عاشت 90 عاماً وماتت قبل خمسة أعوام متأثرة بالسرطان في بيتها العتيد بشارع داغير. نعاها المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي وشخصيات فنية وسياسية كثيرة. ولم تتأخر جنازتها. دفنت في اليوم نفسه في مقبرة مونبارناس بجوار رفيق حياتها المخرج جاك ديمي. لا يُذكر اسم أحدهما بدون الآخر.
يونانية الأب فرنسية الأم. صعدت إلى باريس من الجنوب واندمجت في الغلواء الثقافية لمقاهي السان جيرمان. يحفظ عشاق الفن السابع أفلام الموجة الجديدة ويرددون أسماء غودار وتروفو وشابرول ورومير. ينسون أن أول فيلم في الموجة أخرجته امرأة عام 1954. كان عنوانه «النقطة القصيرة».
أنتجت آنييس فاردا فيلمها بشكل مستقل. كتبت السيناريو وأخرجته في البيت الذي كانت تقيم فيه بمدينة سيت، جنوب فرنسا. لم تدرس السينما ولم يشغلها أنها فنانة تتحرك في مجال ذكوري. الأنثى الجيدة هي الممثلة، أما المخرجة فهي امرأة مسترجلة. نفرت من الاستوديوهات وصورت أفلامها في الشوارع. رأسها مسكون بعشرة مشاريع في وقت واحد. تختلط بكل الفئات وتسير في مظاهرات ضد العنصرية. لم تتوقف، طوال سبعين عاماً، عن السعي وراء تجارب ولقاءات جديدة.
كانت صاحبة سبع صنايع. اشتغلت مصورة في الأعراس وكاتبة سيناريو ومحررة وممثلة ومنتجة ومخرجة وأستاذة جامعية. وفي سن الخامسة والسبعين صارت رسامة. أخرجت عشرات الأفلام التسجيلية والروائية. أفلام تشبهها في الحرية وركوب أجنحة الأحلام. نالت آنييس فاردا جوائز لا تحصى وتكريمات في فرنسا وخارجها. استدعتها هوليوود في عام 2017 لتقدم لها «أوسكار الشرف».
في بيتها الذي يشبهها يمكن للزائر أن يجلس على علب أفلام أو على كومة مجلات. وهي اختارت أن تسكن في شارع أخذ اسمه من لوي داغير، المصور والكيمياوي والرسام ومخترع «الداغيريوتيب»، أصل فن الفوتوغراف. عاشت في ذلك البيت جلّ عمرها. وكان مكتبها على الرصيف المقابل. تنزل في الضحى وتخطو إلى مقهى «بابيلونيا» القريب. يستقبلها صاحبه الفنان العراقي ويقدم لها الشاي بالنعناع. تأكل الفلافل وتتابع حركة المارة من وراء الزجاج. يعرفها كل من في الجوار ويحييها. بونجور مدام فاردا. بونسوار مدام فاردا. هي حارسة الحي، بقامتها القصيرة وتسريحتها التي تشبه الخوذة وشعرها المصبوغ بلونين.
استيقظ الجيران، ذات صباح، على شاحنات محملة بأطنان من الرمل تفرغ حمولتها على إسفلت الطريق. جيء بعدد من كراسي الاسترخاء والشماسي وبمصابيح قوية أحالت المكان إلى شاطئ مشمس. تم قطع الشارع الحيوي لمدة ثلاثة أيام كرمى لعيني مدام فاردا. كانت تصوّر فيلماً عن حياتها، تستعيد فيه مشاهد من أول أفلامها حين كانت شابة تسكن على الساحل. وبما أن البحر لا يأتي إليها فقد جاءت به إلى باريس. ارتدت لباس السباحة وتشمسّت والكاميرا تدور.
في هوليوود انحنى المخرج ستيفن سبلبيرغ وهو يحييها. تحب التكريم ولا تريد أن يتعاملوا معها كمومياء. قالت لمرافقيها إنها تكره أن تكون تمثالاً منصوباً فوق قاعدة. وفي العام التالي اختيرت في لجنة تحكيم مهرجان كان. صعدت الأدراج على السجادة الحمراء برفقة 80 سينمائية من كل الأجيال. قرأت إحداهن بياناً ضد تحرش المنتجين بالنساء واستفراد الرجال بالأدوار الأولى والمراكز المتقدمة. أضافت آنييس فاردا إلى ألقابها لقب الناشطة النسوية. وهو في الحقيقة أقدم ألقابها.