سبابات على المائدة

سبابات على المائدة

سبابات على المائدة

 العرب اليوم -

سبابات على المائدة

إنعام كجه جي
بقلم - إنعام كجه جي

كان ذلك منذ دهر، قبل امتلاكي هذا الإبليس الصغير الذي كان يُسمى النقال أو الجوال. دعيت إلى مطعم في عمان وكان إلى المائدة المجاورة أسرة من معارف صاحب الدعوة. تبودلت التحيات والسلامات وجلس كل في مكانه. ولفت انتباهي أن الداعي وضع هاتفه طوع بنانه، يأكل وعين في الطبق وعين على الشاشة. ثم وصلته رسالة نصية من صديقه في المائدة المجاورة. ضحك وقرأها علينا: «ما شاء الله نازل في المقلوبة وكأنك تطلبها بثأر». وسرعان ما رد صاحبنا على صديقه وكتب له: «وأنت ما شاء الله ما قصرت مع اللبن الرائب... كأنك عطشان بالولادة». بقيت مثل الطرشاء في الزفة. مائدتان يفصل بينهما شبر. لماذا لا يتبادلان الكلام بالصوت الحي؟

اليوم صارت الهواتف على كل الموائد وفي كل الجيوب. وسمعت بمطاعم تطلب من الزبون ترك الهاتف عند الباب. إنه يشغل الانتباه عن الجلساء والأصحاب. يغوص كل منهم في شاشته، ينقر بسبابته باحتراف عالٍ وكأنه في مسابقة للرقن على الآلة الكاتبة. أصدقاء وأقارب وأحبة يلتقون لكنهم ينصرفون عن بعضهم البعض. يزدردون الطعام بشكل آلي. لا يشعرون بالمذاق. تتنافس أسنانهم في المضغ مع سباباتهم في اللمس الخاطف.

وضع بات يقلق كبار الطهاة في فرنسا. يسهر هؤلاء من أجل ابتكار وصفات ومذاقات جديدة. يجتهدون لكي يقدموا للزبون طبقاً مرسوماً مثل لوحة تشكيلية. العين تأكل قبل الفم لكن السبابة تفسد دفء الاجتماع. تبعثر اجتماع الأبناء والأحفاد حول صينية الوالدة. بينهم من يمسك الهاتف بين راحتيه وينقر بالإبهامين معاً. يعترف بأن تبادل الرسائل النصية أثناء الاجتماعات العائلية عادة غير محمودة، تكاد تقترب من قلة الأدب. لكن لا أحد مستعداً للتمتع باللحظة الحميمة الراهنة والفكاك من جاذبية الشاشة.

جاء في إحصائية نشرها مركز متخصص في مراقبة العادات الغذائية أن فرنسياً من كل ثلاثة يستخدم هاتفه على المائدة. الإبليس الصغير حاضر في كل الوجبات، لا سيما لدى الشريحة العمرية بين 18 و34 عاماً. يستحيل الجلوس للطعام بدونه. يحدث هذا في فرنسا، الأمة التي تتباهى على جيرانها الأوروبيين بأنها ما زالت ملتزمة بتقليد الوجبات اليومية. ثلاث وجبات في مواعيد محددة. كان ذلك قبل أن تستيقظ السبابات والإبهامات وتروح تصول وتجول.

والسبابة، في معجم اللغة، هي الإصبع بين الإبهام والوسطى. سُميت كذلك لأنهم كانوا يشيرون بها في السب والمخاصمة. وطبعاً فإن الهاتف الذكي لا يحتاج منك لكل سبابتك بل للأنملة، وجمعها أنملات وأنامل وهي رأس الإصبع. لم يعد هاتفك يسرق النوم من عينيك في الليالي، فحسب؛ لقد حل ضيفاً في الطبق، يقضم من وقت الأكل ومن خبز الآكلين. تقول دراسة حديثة إن للهاتف تأثيراً ضاراً على الشهية وعلى الألفة بين البشر. يومض فينفر صاحبه عن المائدة، كأنما لدغته عقرب، متحججاً بأنها مكالمة ضرورية أو اتصال من العمل. يؤكدون لك أن من يتبادل المكالمات خلال الطعام يسرف في الأكل بدون انتباه. يبتلع أي شيء بدون تلذذ.

وصف الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي ميشيل سير (1930 - 2019) هذا الجيل بأنه «جيل السبابات». نشأ شباب الرقمنة وهم يديرون كل معاملاتهم بالهاتف. يسجلون في الجامعات والنوادي، يثرثرون مع الأحبة، يواعدون الطبيب، يراجعون الحساب المصرفي، يحجزون رحلات السفر، يطلبون ثيابهم وأحذيتهم الرياضية... كله في الشاشات. ومنها يرسلون قبلات وقلوباً حمراء لأمهاتهم من بعيد. ما عادت هناك حياة خارج «السمارتفون»، إدمان العصر وجاسوس الزمان.

arabstoday

GMT 13:05 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

حزب الله بخير

GMT 11:57 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مرحلة دفاع «الدويلة اللبنانيّة» عن «دولة حزب الله»

GMT 11:55 2024 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

هل هذا كل ما يملكه حزب الله ؟؟؟!

GMT 20:31 2024 الجمعة ,13 أيلول / سبتمبر

عشر سنوات على الكيان الحوثي - الإيراني في اليمن

GMT 20:13 2024 الخميس ,12 أيلول / سبتمبر

صدمات انتخابية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سبابات على المائدة سبابات على المائدة



نانسي عجرم تتألق بالأسود اللامع من جديد

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 08:52 2025 السبت ,26 إبريل / نيسان

قادة العالم يشاركون في جنازة البابا فرنسيس
 العرب اليوم - قادة العالم يشاركون في جنازة البابا فرنسيس

GMT 17:37 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

أقصر الطرق إلى الانتحار الجماعي!

GMT 04:47 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الجمعة 25 إبريل / نيسان 2025

GMT 17:02 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

صعود طفيف لأسعار النفط بعد انخفاض 2%

GMT 10:33 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

نانسي عجرم تتألق بالأسود اللامع من جديد

GMT 17:34 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

بقايا «حزب الله» والانفصام السياسي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab