كنَّا في بولونيا، شمال إيطاليا، نحضر أسبوعاً ثقافياً عربياً استضافته بلدية المدينة. صاحبُ الفكرةِ ومنفّذُها والداعي لها هو أحمد الحلبة، الناشط المغربي المغترب الذي ارتبط بالمقاومة الفلسطينية وتعرّف على قادتها. لبَّى الدعوة أدونيس ومحمود درويش ولطفي الخولي ونوال السعداوي وشريف حتاتة ومحمد أركون ومحمد سعيد الصكار. وكنت الصحافية التي تغطّي المناسبةَ لمجلة عربية في باريس.
أحمد الحلبة فنانٌ بطبعه. سياسيٌّ يحبُّ كلَّ ما هو جميل. الشعر والغناء واللوحات الفنية والخط العربيَّ والبطولات. استأجر حافلةً صغيرةً وأخذنا في نزهة إلى مدينة البندقية القريبة. ركبنا القاربَ المعروفَ بالغندول، ذاك الذي كان عنواناً لواحدةٍ من أشهر أغاني عبد الوهاب من كلمات علي محمود طه:
أينَ من عينيَّ هاتيكَ المجالي يا عروسَ البحر يا حلمَ الخيالِ
تجوَّلنا في الطرقات وبين القنوات والتقطنا الصورَ ونحن ما بين دندنةٍ من الخولي وحكايةٍ تراثية من أركون وطرفةٍ من الصكار وقهقهات من أدونيس ودرويش اللذين كانا في ذلك الأسبوع سمناً على عسل. ولم تتمكَّنِ الدكتورة نوال السعداوي من مشاركتِنا زيارة فينيسيا لارتباطها بندوةٍ مع جمهور نسائي إيطالي حاشد. وهي لم تغفر لنا تغيّبنا عن ندوتها.
بين الندوات، كانَ الحلبة يحدّثنا عن لقاءاته بأسماء ثقافية بارزة في القاهرة وبيروت وباريس والدار البيضاء.
وهو شغفٌ جعله يعمل على إصدار صحيفة تهتمُّ بشؤون المهاجرين العرب وتعزّز صلاتِهم مع ثقافة أوطانهم. كانَ ينوي تسميتَها «الكرامة». وقد صدر منها عددان تجريبيان ولم تستمر.
في جلسةِ استرخاء، سأل أحمد الحلبة ضيفَه شاعرَ المقاومة عن فيروز: أي قصيدةٍ يلهمُك صوتها؟ وغابت عينا درويش وراءَ زجاج نظارتِه ولم يجب. لكنَّه أعطى الحلبة، فيما بعد، ورقةً عليها سطورٌ بخطّ يده. قال إنَّها هديةٌ للعدد الأول من «الكرامة». وما كانَ يمكن أن أرى مخطوطةَ الشاعر تمرّ من تحت أنفي، كما يقول الفرنسيون. أخذت الورقةَ إلى جهاز استنساخ واحتفظت بصورةٍ منها بين أوراقي. نسخة يزيد عمرُها على ثلاثة عقود.
قد لا يكون نصُّ درويش عظيماً. لكنّ الشاعرَ الذي تمرُّ بعد أيام الذكرى الثالثة والثمانون لمولده، سجَّل انطباعات ذاتيّة حميمةً تليق برهافة مطربة يهدهد صوتُها أجيالاً من العرب، قال:
«أغنية فيروز تنسى أن تكبر. ونحن أيضاً ننسى أن نتساءل: أما زلنا نحبّها كما كنّا نحبّها، هناك، قرب عمر مشترك؟
إنَّها تستحضر لنا ما كان فينا من لسعِ الوردِ الأول، من شفافيةٍ أولى ودهشةٍ أولى، ومن شجنٍ أوّل. كأنَّ أحداً منا لم يفترقْ عن أحدٍ أو مكانٍ أو عاطفة. وكأنَّ أحداً أيضاً لم يلتقِ بما ضاع منه فيه وفي طرقات يمحوها المطر.
ولكنّ الجمالَ الحُرّ هو الذي يوجعنا، ونحن نحاول الإطلالة، من غيمِ الصوتِ البعيد، على صورتنا الأولى... في أقاليمَ أخرى.
أغنية فيروز تطيّر الأيام، كما تطيّر أسراب اليمام، ثم تعيدُ ترتيبها في إناءٍ بلّوريّ على ظهرِ مهرٍ نزق. كم ستنكسر! كم تنكسر دون أن تنكسر...
تُغنّي في منطقة آمنة، مُسيّجة بزهور برّية، منطقة بيضاء خالية من المفاهيم ومن الاختلاف، في ساحةٍ صغيرة قد يتحوّل فيها الأعداء إلى خصوم».