بقلم - إنعام كجه جي
تثور الشعوب ويستبد بها الغضب. تخرج المظاهرات ولا تصل أيدي المتظاهرين إلى المغضوب عليه. يرتجلون دمى تشبهه ويمثّلون بها. يتجمعون حول الدمية يدوسونها بالأقدام. يحرقونها وهم يهتفون ويصخبون. يتطاير الرذاذ من الأفواه. يفيض بهم الكيل من ممارسات العدو فيحرقون علمه. احترقت الآلاف من أعلام إسرائيل في شوارع المدن العربية. العشرات من صور شارون وسلمان رشدي ونتنياهو. يعود المتظاهرون إلى بيوتهم راضين مرتاحين. ذلك أضعف الإيمان.
لا فضل لشعب على آخر حين تصعد الدماء إلى الرؤوس. في العام الماضي أحرق الإنجليز دمية على هيئة ليز تراس، رئيسة الوزراء التي حكمت لأقل من شهرين. يحتفل البريطانيون خريف كل عام بليلة «بونفاير». يوقدون نيران البهجة ويطلقون الألعاب النارية ويحرقون دمى تمثل شخصيات كريهة. تقليد يقام في ذكرى غاي فوكس، المتطرف الكاثوليكي الذي خطط لتفجير البرلمان، وقتل الملك جاك الأول، عام 1605.
لدى انتفاضة الطلبة في فرنسا، عام 1968، أضرم المتظاهرون النار في دمية على شكل رئيس الوزراء بومبيدو. منعتهم الحشمة عن ديغول. ولم يحتشم المحتجون على قانون التقاعد وهم يحرقون، قبل أيام، دمى تمثل الرئيس ماكرون ورئيسة وزرائه إليزابيت بورن ووزيرين آخرين. يريد الشارع شيئاً والقصر يتعنت ولا يستجيب. جرت المحرقة الفرنسية في ساحة مدينة ديجون، شرق البلاد. عاصمة أشهر أنواع الخردل في العالم. والمثل الفرنسي يصف الغاضب بعبارة: «صعد الخردل إلى أنفه».
تناقلت القنوات المشهد وأشبعه المعلقون استطرادات. شوهدت الدمى ملقاة أرضاً وسط دائرة المتظاهرين. يتقدم رجل يرتدي سترة برتقالية ويسكب عليها وقوداً. تليه امرأة تحمل على صدرها شعار نقابة العمال تشعل النار في القماش والحشوة. تدير فئة من مشاهدي التلفزيون الرؤوس اشمئزازاً. شعب رقيق أنيق يُعلي من شأن الجمال ويكره البشاعة. كأنه لم يتحدّر من أولئك الذين نصبوا مقصلة الثورة الفرنسية.
غرّد حاكم المنطقة بأنه رفع دعوى باسم الدولة ضد مشعلي النار. وقال وزير الداخلية كلاماً وعراً، «نعم للمعارضة الشرعية، نعم للمظاهرات، كلا للمبغى ودعارة العنف». ينسى الوزير أن تقليد إعدام الدمى في فرنسا يعود إلى قرون ماضيات. كانوا، إذا تعذّر شنق الشخص ذاته، يعدمون صورته المرسومة.
هناك في المتاحف لوحات زيتية بإطارات فخمة تصور تلك الممارسات. أصدر الشعب، في عام 1787، حكمه بحرق شارل ألكسندر كالون، وزير المال في عهد لويس السادس عشر. قضت الحيثيات بذرّ رماده في الرياح الأربع. ولما تعرقل التنفيذ سارع عدد من طلبة الحقوق إلى إحراق دمية تشبهه. وتكررت، بعد ذلك، إعدامات الدمى. ويكتب المؤرخ شارل تيلي، أن الشعب أقام جنازة رمزية للأب تيراي، مدير الضرائب، ودفنوا دمية على هيئته.
مشانق ومحارق للدمى تعود للعصور الوسطى. فولكلور كان يقام للتسلية في الاحتفالات الشعبية، قبل صوم الفصح، وانقلب احتجاجاً ضد السياسيين الفاسدين. استمر التقليد حتى أوائل القرن التاسع عشر. يصدر القاضي حكماً بالشنق في حق متهم هارب. ويشنق عشماوي الفرنسي دمية تشبه المُدان أو لوحة رسمت عليها ملامحه.
في احتفال بقدوم الربيع، عام 1832، أحرق المحتفلون أقنعة على شكل كمثرى احتجاجاً على الملك لويس فيليب. ناصر الثوار لكنهم اعتبروه، فيما بعد، خائناً. هرب إلى سويسرا وعمل أستاذاً تحت اسم مستعار. انكشفت هويته فمضى إلى الدول الاسكندنافية ووصل حتى القطب الشمالي. لماذا الكمثرى؟ لأن رسام الكاريكاتير دومييه كان يسخر من الملك وهو يرسم سحنته الشبيهة بتلك الفاكهة. هجاء أجمل من مديح.