بقلم - إنعام كجه جي
هناك اتفاق، في لغتنا العربية، على ملاطفة فاقدي الحواس. فالأعمى هو البصير أو كفيف البصر. والأعور هو كريم العين. والأصمّ هو ثقيل الأذن. وكان المتنبي فخوراً بموهبته، وله كل الحق، فنحّى اللطف جانباً وقال قولته الشهيرة: أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدبي... وأسْمَعَتْ كلماتي مَن بهِ صَمَمُ.
قرأت في هذه الصحيفة، قبل أيام، خبراً عن تجربة علمية جاء فيها أن في إمكان البشر سماع الصمت. يا حبيبي! أي رفاهية أن تنسحب الأصوات من محيطك فتتيح لك متعة أن تلتقط نأمة السكون؟
لا أدري متى ظهر في حياتنا مصطلح «التلوّث الصوتيّ». مسكينة هذه الأذن التي تستقبل، كل يوم، مزيجاً من قرع المطارق وزلزلة آلات الحفر وصفارات سيارات الشرطة والإسعاف ومكبرات الصوت في المقاهي وشتائم المتعاركين في الشوارع وزعيق المتخاصمات في البيوت ونباح الكلاب الضالة وبكاء الصغار في توالي الليالي. حتى الموسيقى ستكرهها إذا كان لك جار يتمرن على الكمنجة ليل نهار.
ماذا تفعل مع هذا التلوّث؟ أنت تغسل يديك بالصابون وتُنظّف أنفك بالمنديل وتُليّف جسدك في الحمّام وتدعك كعبيك بالحجر الخشن. فكيف تُعقّم أذنيك من تلك العجينة التي تيبّست فيهما؟ هي، من دون مبالغة، اعتداءات سافرة على راحتك. تجاوزات على إنسانيتك. خرق لكل مواثيق العيش المشترك وبروتوكولات حسن الجوار. فإذا شمّرت عن لسانك وشاركت في السمفونية فأنت قليل ذوق. وإذا «غضضت السمع» فأنت مُتكبّر ومُتعالٍ في أحسن الأحوال. وفي أسْوَئِها أنت عدو الشعب.
جاء في التجربة المذكورة في هذه الجريدة أن باحثين في جامعة جون هوبكنز الأميركية استفادوا من حيلة معروفة تسمى «وهم واحد هو أكثر». وهي تخدع أدمغة المستمعين في التفكير بأن صوتين منفصلين أقصر من صوت واحد. هذا رغم أن الوقت الإجمالي هو نفسه في الواقع. وعند استبدال الأصوات بالصمت، وجد الفريق أن هذا الوهم لا يزال يعمل. ويُنظر للصمت الواحد المستمر على أنه أطول من صمتين منفصلين. رغم المدة نفسها». هل فهمتم الكلام؟ أنا لم.
لمزيد من التوضيح جاء في الخبر أن الصمت، مهما كان، ليس صوتاً. إنه غياب للصوت. وبما أننا نتفاعل مع الصمت بنفس طريقة الصوت في تلك الخدعة، فإننا نسمع هذا الصمت.
من منّا لا يشتهي سماع الصمت؟ صَهٍ أيها الثرثار، أيها النقّاق، أيها الطنّان، أيها الطبل، أيها الحنجوريّ، اخرسْ لكي أسمعك. أو بالأحرى كيلا أسمعك. يبدو لي أن هناك حاجة كونية للرأفة بالصاغرين المُنصتين. يوم واحد في السنة، مثل عيد الشجرة أو يوم الأم، تنقطع فيه الكهرباء عن مكبرات الصوت. تنكتِم فيه الشاشات وتخفت الحناجر ويسكت المُطربون والطبّالون. نستثني تغريد البلابل وهسيس أوراق الشجر وخرير السواقي وترددات الموج. يصمت البشر وتتحدث الطبيعة.
والحكاية تجرّ الحكاية. قالت لي شابة إيطالية كفيفة البصر، تعمل مترجمة فورية في المؤتمرات، إنها تمارس حياتها اليومية بشكل طبيعي بفضل ما يصلها من أصوات. الأذن تقوم بوظيفة العين. مع هذا فإنها تعتبر الصمت أجمل الأصوات. وهو ليس صمتاً واحداً متشابهاً. فهي تفضل ذاك الذي يلفّ قريتها الجبلية بعد تساقط الثلج. يا حبيبي!