بقلم - إنعام كجه جي
باريس مدينة الإعلانات، مثلها مثل أي مدينة كبرى. للإعلانات أماكن مضاءة في الشوارع ومساحات عريضة في دهاليز المترو. تحمل حافلات النقل على جوانبها منشورات عن أفلام ومسرحيات جديدة.
إن الدعاية فن قائم بذاته. له أساطينه الذين تتخاطفهم الشركات مثلما تحتكر النوادي لاعبي الكرة. لذلك لا يكتفي الإعلان الجيد بلفت النظر بتصميمه وألوانه، بل بالرسالة الذكية الموجزة التي يحملها. وأزعم أن هناك دعايات طيبة وأخرى لئيمة. وأخبث إعلان وقع عليه نظري كان لشركة فرنسية شهيرة لإنتاج الجوارب. وهو يصور جنرالاً سوفياتياً من أيام «الجيش الأحمر» تتدلى على صدره صفوف من الأوسمة، ولم تكن تلك النياشين سوى فردات جوارب صغيرة ملونة.
صدر في باريس، حديثاً، كتاب بعنوان «الفلسفة الصغيرة للجوارب»، والمؤلف هو جان كلود كوفمان. عالم اجتماع سبعيني مشهور بشاربه بالغ الكثاثة. تخصص في مراقبة الحياة اليومية لعموم الفرنسيين والتوقف عند الظواهر الاجتماعية الجديدة.
مؤلف غزير الإنتاج، يتناول موضوعات تبدو خفيفة، لكنه يحفر عميقاً في سلوك الناس... فماذا يقول في كتابه الجديد الذي يتجاوز الثلاثين في سلسلة مؤلفاته؟
يترك الرجل الطاقية التقليدية التي يرتديها الفرنسي، والقبعة المستحدثة، والمعطف، والسترة، والقميص، وربطة العنق، والسروال، ويهبط ليتأمل الجورب. يؤكد أن قطعة الثياب هذه يمكنها أن ترفع صاحبها وتميزه بين الناس، مثلما تستطيع أن تنزله أسفل سافلين.
ليس عبثاً أن يصف الفرنسيون الشخص المحبط بأن «معنوياته في جوربيه». موضوع جلل. قضية تتعدى نسيجاً يغطي القدمين لتدخل في اهتمام فلاسفة من أمثال هيغل وهيدغير وفرويد ووالتر بنيامين. والتفاصيل في الكتاب. من يصدّق أن الجوارب تستحوذ على اهتمام أولئك السادة المفكرين ليدرسوا تأثيرها في سلوك مرتديها؟ قطعة ثياب يفترض فيها ألا تكون مكشوفة للأعين. تختبئ وراء حافة السروال وتندسّ في الحذاء. ليس من الأناقة أن تكون قصيرة تكشف الرسغ عند جلوس صاحبها ووضعه الساق على الساق.
وأعرف أن الرسغ تستعمل للطرف العلوي، أي الذراع، لكنني لم أجد ما يقابلها للطرف السفلي. وانطلاقاً من أنها غير منظورة، فإن معظم الفرنسيين لا يعيرون اهتماماً كافياً لجواربهم، وليس من عادتهم خلع أحذيتهم عند عتبات البيوت. عادة متبعة عند العرب ولدى أقوام أخرى. ومن يزر الدول الاسكندنافية يلاحظ بهجة في الجوارب. ينزع الضيوف جزمهم الثقيلة فترى نقوشاً وأزهاراً ودببة وأقواس قزح.
في فرنسا الأمر مختلف. كان الملوك والنبلاء يرتدون سراويل ثلاثة أرباع، تنحسر عن جوارب بيضاء ناصعة. ثم انقلب الزمن وتغيرت القيافة. استطالت السراويل وغطت ما تحتها. فإذا بانت جوارب الرجل فإن الأمر لا يمر مرور الكرام، لا سيما إذا كان من السياسيين. ولما جرى التشكيك في ذمة رئيس الوزراء الأسبق بيير بيريغوفوا، دافع عنه أحد كبار السياسيين بما معناه: كيف يختلس من يرتدي هذا النوع الرث من الجوارب؟
والتقط بلانتو، رسام الكاريكاتير في «لو موند» العبارة وجعل منها مادة للرسم على الصفحة الأولى من الجريدة الرصينة.
ماذا عن النساء؟ الأمر مختلف كثيراً. فالجوارب الشفافة عناوين غواية. صُنعت لكي تراها الأعين وتكشف محاسن السيقان. وفي بدايات صناعتها، كانت هناك خياطة طولية من الخلف. واتفق الناس على أن السيدة الأنيقة تُعرف من اعتدال خط الخياطة في جوربيها الحريريين. فلما قامت الحرب العالمية الثانية وانقطعت الجوارب من الأسواق وباتت سلعة كمالية، خرجت الأوانس وهن يرسمن خطاً طولياً على الجلد العاري للإيهام بأنهن يرتدينها.