بقلم - إنعام كجه جي
ما الذي جاء به إلى البال في هذا الصباح الصيفي القائظ، لماذا التِّبَرْزَل من بين عشرات الأنواع من التمور العراقية ذوات الطعم العسل؟ خستاوي وخضراوي ومكتوم وبرحي وساير وحلّاوي وسلطاني وبربن وزهدي وأشرسي. أسماء لا تسقط من ثقوب الذاكرة لأنها نشأت معنا مثل أهالينا. نتلهف عليها لهفة الحبلى وهي تتوحم. هل قلت العسل؟ بل أحلى وأترف.
يحضر التبرزل لأنه بعيد. والشوق للمحبوب يتأجج عند البعد. ولأن اسمه غريب وجميل. لا تحاول أن تبحث عنه في المعاجم. طعم محفوظ تحت ألسنة الذواقة. وحبّات مثل فصوص قلادة العروس. منتقاة بلونين. نصف متماسك على استحياء ونصف ناضج مائع يمضي مخاطباً الحواس. مثل مذاق القبلة الأولى. «لها جاذبية تمر العراق... يسيل على الشفة العاصرة»، حسب وصف الشاعر المصري صالح جودت.
والتبرزل حاضر أيضاً في الشعر. مفردة مغرية بما في منطوقها من حركات مبهمة وسكنات. من ينسى قصيدة مظفر النواب التي ينتهي كل مقطع فيها بـ«وأمّيتك لذّتي وفوق التبرزل طعم»؟ لهجة لا يفهمها سوى الجنوبيين من أهلها. إن التمر والنخل حصة الجنوب من هذا العالم، مثلما ذهب الصنوبر والتنّوب إلى أهل الشمال.
علّمونا في المدارس أن العراق كان بلاد السواد لكثرة بساتين النخيل فيه. وحفظنا من الصغر أن في أرضنا ثلاثين مليون نخلة. واليوم بيننا وبين الطفولة ما صنع الحدّاد. وبصراحة لا أدري أي حدّاد ولا ما صنع. جاء حدّادون كثر وأعملوا في النخيل سواطيرهم. قصفوا رؤوسه وقطعوا قاماته وتركوا الأرض تندب قتلاها. تراجع عدد النخيل إلى ما دون النصف. وهم ما زالوا يجتثونه ليشيدوا عمارات من اسمنت.
وأمس رأيت في التلفزيون شيخاً يوصي بزراعة نخلة تقرباً من الله. هي شجرة مباركة، مثلها مثل التين والزيتون. زرعها أجدادنا فأكلنا منها. ففي أي بلاد الهجرات نزرعها ليأكل أحفادنا؟ يفرحني أن أقرأ تصريحاً للناطق باسم وزارة الزراعة بأن أعداد النخيل في تزايد بعد أن انحسرت كثيراً «بسبب الحروب والحصار». يقول الناطق، لا فُضّ فوه: «اهتمت الوزارة بعد 2003 بهذا القطاع الحيوي بشكل كبير، لا سيما بعد أن أصبح إنتاج التمور يوفر مورداً جيداً، إذ تم الاهتمام مرة أخرى بالبساتين واستيراد فسائل نسيجية ذات أصناف عالية الجودة، مِن التي تباع في الأسواق الدولية بأسعار عالمية، بالإضافة إلى منع استيراد المحصول لتحسين واقع القطاع».
والنخلات عماتنا، شقائق آبائنا. أحتضنهن حين ألتقيهن في بلاد الله الواسعة وأطارد أخبارهن في الفضاء الأزرق. أراهن مزروعات في صناديق من خشب في مطار شارل ديغول. غريبات هزيلات مصابات بالكساح. أقع على تقرير في صحيفة بريطانية جاء فيه أن العراق كان ينتج ثلاثة أرباع التمور في العالم لكن إنتاجه الآن لا يمثل سوى خمسة في المائة. كان لدينا مائة وخمسون مصنعاً لمعالجة التمور وبقي منها ستة. كنا نصدّرها واليوم نستورد الجيد منها. صار التمر غالياً في بلد التمر، يعزّ على المستورين. أشاهد تحقيقاً من البصرة يقول فيه أحد أصحاب البساتين إنه يرعى نخلاته ويحدب عليها ويحميها من الآفات الزراعية. يتحدث عنها وكأنها من أولاده.
يقولون لك إن في العالم ألفي نوع من التمور. منها ستمائة في العراق. ستعجز الذاكرة عن حفظ أسمائها. كنا نسافر ومعنا علب التمر المعلب بأناقة والمحشو بالجوز واللوز، هدايا للأصدقاء. لم أتصوّر أنني في يوم من الأيام سأشتريه من مطارات الخليج، حيث ينتجون تموراً مُحسّنة ومغلفة بالشوكولاتة. ماذا تقول لمن يكسو الذهب بالتَّنَك؟