بقلم - إنعام كجه جي
بكيت وأنا أرى التسجيلَ الذي حطّ على شاشة هاتفي قبل يومين. رأيت السيدةَ الجميلةَ المبتسمةَ تقف على مسرح في البصرة تغنّي «بيادر خير». وأظن أنَّ كل عراقيّة وعراقيّ من جيلي، ما قبله وما بعده، دمعت عيناه وهو يتفرَّج على هذا التسجيل المرتجل للفنانة المغتربة شوقية العطار وهي تستعيد مطلعَ أجملِ أوبريت تحفظه ذاكرة شعب تقهقر من حال لحال. «يا عشقنا فرحة الطير اليردّ لعشوشه عصاري...». وكانت معها ابنتها الشابة بيدر البصري تحيط بكتفها وتشاركها الغناء. النخلة والفسيلة معاً.
و«بيادر خير» حكاية. ففي لحظة مباركة من الزمن، عام 1969، أشرقت علينا من البصرة مجموعة فنية يرتبط أفرادها بروابط عائلية ورفاقية، قدّمت على مسرح «قاعة الخلد» في بغداد ما يمكن اعتباره أول مسرحية غنائيّة راقصة في تاريخ التأليف الموسيقي العراقي. عرض يُحيّي نضال الفلاحين للتحرر من الإقطاعيين. لم نكن نعرف أن الأعمال الفنية التي توصف بالنضالية يمكنها أن تكون بعيدة عن التجهم، تُطلق كل ذلك الفرح والنشوة وبشائر الخير. يكفي أن نقرأ أسماء المشاركين في ذلك الأوبريت الفذ لنعرف قيمته: الشعراء على العضب وخالد الخشّان وأبو سرحان ومعهم ياسين النصير. والملحنون حميد البصري وطالب غالي. مصمم الرقصات المخرج قصيّ البصري. المطربون فؤاد سالم وشوقية العطار وخلود النجار وسيتا هاغوبيان وعبد الأمير السلمي، والعتب على الذاكرة.
قذفت النزاعات السياسية بكثير من أعضاء الفرقة إلى مشارق الأرض ومغاربها. صار يُضرب المثل بالطشّار العراقي. وكانت شوقية العطار واحدةً من عشرات المواهب التي خسرها الوطن. ثم تبعتها آلاف. نقرأ عنها أنها نشأت في أسرة بصريّة تهوى الفن. والدها يؤدي أغنيات صالح عبد الحيّ ووالدتها تحفظ الأناشيد الدينية. من ذا الذي لم يعشق الشعر والطرب في المدينة التي كانت ثغر العراق البسّام؟ لمعت البنت في المناسبات المدرسية ثم كبرت والتقت بالفنان حميد البصري الذي شجعها وعزّز شغفها. تزوجا وأخذها إلى جماعة تموز للأغنية السياسية. وبموازاة هوايتها الفنية درست الفنون المنزلية ثم حققت حلمها بدخول معهد الدراسات النغمية. ومنه التحقت بفرقة الإنشاد في التلفزيون. سجّلت آخر أعوام السبعينات لحظة الافتراق والتشتت. غادرت شوقية العطار وطنها إلى اليمن مع أسرتها. كانت تلك محطة أولى. فالترحال العراقي محطات. عملتْ في الإذاعة والتلفزيون هناك وشاركت مع زوجها في استعراضات ومسرحيات غنائية قبل الانتقال إلى سوريا. ومن هناك انطلق صوتها لتغنّي في لبنان والجزائر وفلسطين وموسكو وعدد من مسارح أوروبا. كانت هولندا هي المحطة الثالثة والأخيرة للأسرة. لم يبتعد أفرادها عن الفن، خبزهم ومائهم، لكنها، قبل سنتين، فقدت عميدها، الملحن حميد البصري.
كانت السياسات النابذة كفيلة بحجب الأوبريت الجميل عن العرض. يقال إن التسجيلات قد أحرقتْ. لكن بقي من احتفظ بمقاطع منها حيث جُمعت في الخارج وأعيد توليفها. وحتى بعد الحجب، ظلّ العراقيون يحفظون «بيادر خير»، العمل البهيج الذي كان تعبيراً عن مجتمع يزرع ويبني ويغني ويقرأ وينظم أعذب الأشعار. وفي 2019 احتفل مغتربو هولندا بمرور نصف قرن على عرض «بيادر خير» في بغداد.
وها هي الفنانة تعود من غربتها الطويلة إلى بصرة الطيبين وقد فقدت سندها. نطالع ملامح ابنتها بيدر فنرى نسخة من الوجه الصبوح الذي أطلّ علينا قبل خمسة وخمسين ربيعاً وكأن زلزالاً لم يضرب تلك الأرض. غنى الحضور مع شوقية العطار: «آمالنا تطگ بالشجر. وجبالنا بعلو الگمر. وگاعنة فضة وذهب واحنا شذرها». كيف لا يدمع من يعيش انهيار تلك الآمال؟