بقلم - إنعام كجه جي
والعرب تحبُّ السيوف. تتباهَى وترقصُ بها وتقتنِيها وتعلّقُها زينةً على الجدران. تصنعُها من الحديد وتحلّيها بالفضَّة والذهب. وفي جميلِ مفاخراتِه وضعَ المتنبي السيفَ رفيقاً للقرطاسِ والقلم. واشتهرَ من بين السيوف ذو الفقار، سيفُ الإمامِ عليّ. وهو الذي أهدَاه وزيرُ خارجيةِ العراق آنذاك إبراهيم الجعفري، إلى وزيرِ الدفاع الأميركي الأسبق رامسفيلد. وستبقَى وصمةَ عارٍ في جبينِ صنائعِ الاحتلال.
أتفرَّج على الأفلام التاريخية وأرى الممثلين يُلصقون على وجوهِهم لحًى مستعارة ويتبارزون بسيوفٍ من خشب. أين هؤلاء من عنترةَ الذي كان يودُّ تقبيلَ السيوف لأنَّها لمعت كبارق ثغرِ عبلة؟ ما أبعدَ سيف العبسيّ عن سيف فريد الأطرش وهو يغني: «لو مرَّ سيفٌ بيننا لم نكن نعلمُ هل أجرى دمي أم دمك»! تستوقفني الصورة الفذّة التي صاغها بشارة الخوري وأتساءل: كيف يمكن للسيفِ وللدم أن يخطرا على بالِ من يصف شديدَ العناق؟
لعلَّ حديثَ العناق والقُبَل أطيبُ من حديث السيوف في هذه الأيام التي لم تبقِ عقلاً في رأس عاقل. فهذا كتاب تركه أحدُ الجيران في مكتبة البناية، عنوانُه: «العلاج بالعناق». ومن لطائفِ بنايتِنا وجود رفٍّ عند المدخل يترك عليه الساكنون الكتبَ التي ما عادوا في حاجة لها. كانَ الرفُّ خفيفاً ثم صار يئنُّ تحت ثقلِ الموسوعات والروايات. لم يعد في الشققِ متسعٌ للورق. الكلُّ يتحوّل إلى المكتباتِ الرقمية.
مؤلفة الكتاب سيلين ريفيير طبيبة نفسية متخصصة في العلاجات العصبيَّة العاطفية. وهي تسرفُ في تعدادِ فوائد الاحتضان. إنَّه يوازن ضغطَ الدَّم. يعزّز هرمونَ السعادة. يطردُ الاكتئاب. يُطرّي الجلدَ. يؤخرُ الشيخوخةَ. يُبعدُ المللَ الزوجي. يرفع المعنويات. يُحسّن المزاجَ ويخفّف من ثقلِ اليوميات. وأضيف من عندي: ومن ثقلِ محلّلي الفضائيات.
تفتي المؤلفةُ بأنَّ التلامسَ ضروريٌّ للشعور بالحرارة الإنسانية. الزمنُ صعبٌ والدفءُ مطلوب. تؤكد أن الفرنسيين ما زالوا يعانون، عضوياً ونفسياً، من آثار فتراتِ العزلة التي رافقت انتشارَ «كورونا». فمع الجائحة، تمَّت شيطنةُ الملامسةِ وباتت رديفاً للموت. يودُّ المرءُ احتضانَ الأحباب، لكنَّه يخشى التقاربَ ويشعرُ بالذنب. استوطنَ الخوفُ بين الناس وقضى على المصافحات والحركاتِ العفوية. باتوا يتصافحون بمِرفق الذّراع.
مثل العسس، طاردتهم قواعدُ السلامةِ الصحية من كلّ الشاشات. الزم بيتَك ولا تخرج. ليس أشقَّ على الفرنسيّ من الحرمان من النزول إلى المقهى وتلبيةِ مواعيدِ الحب ولقاءات المودّة. لا طعمَ للقبلة مع الكمامة. لا واحدة على فمِ الحبيب ولا اثنتين عند السلام، ولا أربعاً على وجناتِ الصديقات. أمَّا مسُّ الأنفِ بالأنف فهم لا يعرفونَه. ارتضَى ملايين الفرنسيين بعناقِ كلابِهم وقططهم الأليفة على سبيل التعويض.
تختلفُ الشعوبُ في نظراتِها إلى العناق بحسب ثقافاتها. اليابانيون لا يستسيغونَه ويلتزمون انحناءاتِ المجاملة. والأميركيون يمارسونَه خفيفاً عند اللقاء مع الأصدقاء مصحوباً بالطَّبطبة على الظهر. بينما تغنّي الفرنسية لوري: «أحتاج للحب، للقبلاتِ، للأحضان، كلَّ يوم». لكن الإنجليز يسخرون من الفرنسيين لأنَّهم شعبٌ يتوقَّف الحبُّ لديه عند حدودِ الشفاه. «يتباوسون» في الشَّوارع والمقاهي وعربات المترو لساعاتٍ فلا تبقَى طاقةٌ لمزيدِ في البيوت.
كانت أم كلثوم أجرأَ من لوري حينَ غنَّت، قبل ثمانين عاماً، لقبلةِ الملهوف التي يأخذُها بدلَ الواحدة ألوفاً. أمَّا عبد الحليم فقد توجَّه بلهفتِه نحو الوطن: «بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان». ولعلَّ العندليبَ الأسمر قصدَ واحدة من بناتِ البلاد، حالَ المرضُ بينَه وبينها. ثم جاءَ كاظم الساهر ليضحكَ علينا: «أبوس روحَك». أي روحٍ يا رجل تلك التي تُباس؟ كلُّ عامٍ وأنتم بخير.