بقلم - إنعام كجه جي
اللغة الحيّة تتطور وتغتني. ومن عادة القائمين على معجم «لاروس» الفرنسي إصدار طبعة مزيدة كل عام، تشتمل على مفردات جديدة فرضت نفسها على ألسنة الناس. وهناك 150 مفردة مستحدثة أو مستعارة من لغات أخرى ستدخل هذا القاموس في آخر طبعاته، منتصف الشهر المقبل، ومنها «حلّومي»، الجبنة البيضاء القبرصية التي استهوت الفرنسيين، وتُباع في دكاكين الأطعمة اللبنانية والتركية.
إنها الطبعة المختصرة من المعجم، أي «لاروس الصغير». وهي تقع في أكثر من ألفي صفحة، وتحتوي على 64 ألف مفردة. دليل كان يتصدر مكتبات البيوت، إلى جانب الكتاب المقدس. لا يتراكم عليه الغبار مثل باقي الكتب، لأن الأيدي تمتد إليه باستمرار. واليوم صار المستخدمون يستشيرونه إلكترونياً.
افتتح بيير لاروس (1817 - 1875) أواسط القرن التاسع عشر مكتبة بالحي اللاتيني في باريس. معلّم جاء من الريف مع زميله بوييه، وحلما بنشر كتب تساعد طلاب المدارس في استيعاب المناهج المقررة. توسع نشاط المكتبة، وفي 1856 صدر «القاموس الجديد للغة الفرنسية». إنه الجد الأكبر لـ«لاروس الصغير». وبعدها تعددت معاجم الدار، وتنوعت أحجامها وتخصصاتها. أهمها «القاموس الكوني الكبير للقرن التاسع عشر» في 15 جزءاً وأكثر من ألفي صفحة. تعب الرجل ومات دون الستين. لم يخلّف أبناء، وتولت زوجته ورفاقه مسؤولية المكتبة ودار النشر. ثم ابتلعتها مؤسسة «هاشيت».
واللغات تغتني بغيرها، شرط ألا يُترك الحبل على الغارب. أي وضع حبل البعير على سنامه ليرعى حيثما شاء. كانت مجمعات اللغة العربية تنعقد لتترجم المفردات الأجنبية التي طغت على كلام العامة. وهكذا صار التليفون هاتفاً، والراديو مذياعاً، والتلفزيون مشوافاً. وتداولنا طرفة الساندويتش الذي بات شاطراً ومشطوراً وكامخاً بينهما. واليوم نتفرج على المشواف، ونرى برامج بأسماء إنجليزية في دول تخصص ميزانيات بالملايين للحفاظ على العربية. لماذا «داكترز» وليس «أطباء»؟ ومن المفارقات أن مفردة طبيب دخلت القاموس الفرنسي. ألا يمكن لمن يشتري حق النقل أن يشترط تعريب العنوان؟
لدينا اليوم من يُبرّك السيارة، أي يضعها في «الباركينغ»، ويفوّل الخزان، أي يملأه بالوقود. ويدخل في طريق «وان واي». ويعمل «يو تيرن». ونسمع في المسلسلات مفردات مثل «أفْوَرة» أي المبالغة، وهي مأخوذة من «أوفر» الإنجليزية، ومثلها «نرفزة» أي الغضب، أو «أنتيمي» بمعنى صديقي المقرب. وطبعاً يتم اشتقاق صيغ منها، مثل نَرفَزَ يُنرفِزُ نَرْفزْ. وهي تتنرفز. وهما يتنرفزان. وهم يتنرفزون.
تحتوي اللغة الفرنسية على أكثر من 400 مفردة من أصل عربي. قهوة وزرافة وبلاد وقائد. أخذوا منا السروال وأعدناه إليهم بنطالاً. وفي السنوات الأخيرة أضاف «لاروس» مصطلحات، مثل فدائي وانتفاضة وجهاد وبرقع. وكان من الطبيعي، في طبعة 2022، أن تحضر الجائحة بكل ثقلها، ومفردات مثل «كوفيد» و«جواز صحي» و«فاكسينودروم»، وهو المضمار الكبير المخصص للتطعيم.
لا يدير «لاروس» ظهره للعالم. اللغة خذ وهات. يكفي أن الفرنسية منحت الإنجليزية مصطلح «رونديفو»، أي الموعد، وأجمله الغرامي. وإلى جانب جبنة الحلّومي أخذت الكاكابو وهي ببغاء من نيوزيلندا، والكونجاك وهي نبتة يابانية، والتومت وهو عفريت سويدي، ويودل وهي طريقة جرمانية في الغناء. لذلك لا يمرّ صدور الطبعة السنوية من «لاروس» مرور الكرام. ولا تجاهل اللئام. بل يترافق مع تغطية إعلامية وبيان رسمي تُفرد له مساحات في الصحف ونشرات الأخبار. تتحول الكلمات الجديدة إلى موضوع لأحاديث الأصدقاء والسهرات العائلية. زفّة لغوية جميلة لأمة لا تخفي كمدها من اجتياح الإنجليزية لعقول الشبيبة، لكنها تستوعب وتهضم.