بقلم - إنعام كجه جي
للمرة الأولى يدخل البريك دانس إلى السباقات الأولمبية. صنف جديد تستقبله دورة باريس المقررة في الصيف المقبل. إنها تلك الحركات البهلوانية البارعة التي يتناوب عليها شباب يتقلبون على الأرض معتمدين على عضلات سواعدهم وسيقانهم. يدورون كالمصراع وسط حلقة من المتفرجين والمشجعين. هل هي رقصة أم رياضة؟
في ثمانينات القرن الماضي سمعت لأول مرّة بالبريكية في بغداد. كان ذلك أثناء الحرب مع إيران. ولم أفهم المقصود للوهلة الأولى قبل أن يشرح لي صغار العائلة أن البريكية مُشتقة من البريك دانس، وهم أولئك المراهقون الذين يرتدون سراويل مترهلة ويمشطون شعورهم وفق القصّات الشبابية، يمشون وكأنهم يرقصون. وفهمت أنها تقليعة مستوردة من أميركا. بدأت ممارستها في نيويورك أوائل سبعينات القرن الماضي ثم اجتاحت العالم. لكن الموسوعات تخبرنا أن جذور تلك الحركات الراقصة بدأت في أفريقيا منذ الخمسينات، في نيجيريا بالتحديد. وبفعل انتشار تلك المهارات الأفعوانية وانجذاب الشباب لها، فتياناً وفتيات، نالت اهتمام الصحافة باعتبارها التعبير عن ثقافة جديدة تنمو في هوامش اجتماعية محددة.
لم تكن بغداد بعيدة عما يجري في العالم. وهي قد عرفت مدارس تعليم الرقص للكبار والباليه للصغار. كان الرجال يرقصون مع نسائهم، منذ النصف الأول من القرن الماضي، التانغو والفالس والفوكستروت في نوادٍ للنخبة. غالبية الرواد من الجاليات الأجنبية. واليوم يتبادل رواد مواقع التواصل، بما يشبه الأعجوبة، صوراً لإعلانات عن حفلات «بالو» راقصة تقام في الملاهي الراقية مثل الإمباسي في بغداد وفندق شط العرب في البصرة. بينها ما كان مخصصاً للنساء في حفلات للشاي، بين العصر والمغرب.
أول المنتديات الاجتماعية المقصورة على المشتركين من علية القوم كان نادي العلوية. تأسس عام 1924 وأحسب أنه ما زال قائماً. ونادي الهندية عام 1949. ثم لحقت بهما نوادي الطوائف المسيحية مثل السنتر والمشرق وبابل والأنوار ونادي الأرمن. ومع انتشار نوادي النقابات وأصحاب المهن، كالمهندسين والتشكيليين والصحافيين والاقتصاديين، صار الرقص المختلط ممارسة ديمقراطية في الأعياد والحفلات. وكانت تلك النوادي تعلن عن وجود «باند» في حفلاتها، أي فرقة تعزف موسيقى حية، مثل فرقة شيراك وإلهام المدفعي وإيغلز. كنت في حدود السابعة من عمري حين سمعت بالروك أند رول للمرة الأولى. وأذكر أنني رقصتها مع أخي الكبير في اجتماع عائلي بحديقة الدار. يمسك بيدي ويديرني حول نفسي مثل اللولب. ثم يحملني من اليمين ويلقي بي وراء ظهره ليتلقاني من اليسار. كان هناك الغرامافون والأسطوانات الكبيرة السوداء التي نسميها قوانات. وتمر السنوات وألتقي في مهرجان «كان» السينمائي بالممثل والمؤلف الموسيقي الأميركي جيمي دونايت، صاحب الأغنية الشهيرة «روك أراوند ذا كلوك». لم يصدّق حين قلت له إنني رقصت على إيقاع تلك الأغنية في بغداد. قال إنه يعيش حياته من عائدات بيع أسطوانتها في العالم. كان سعيداً ونحن نغني المطلع سوية على إيقاع فرقعة الأصابع.
لم تكن البرجوازية العراقية وحدها من يرقص. فهناك أهازيج الفلاحين ودبكات الأكراد والآثوريين والإيزيديين و«الجوبي» وحفلات الغجر. وكان التلفزيون يعرض حفلات للراقصات الغجريات مثل حمدية صالح وبناتها. شابات ممشوقات القوام ذوات شعور طويلة مرسلة، يرتدين فساتين مستورة ويتمايلن برشاقة. ولم يكن الانحدار قد جرف الفن إلى هاوية الابتذال المسمى، زوراً، بالرقص العراقي.
وما بين مدرسة ألياس بحر، التي تعلّم فيها الزعيم عبد الكريم قاسم الرقص الغربي في الخمسينات، وبين ظاهرة البريكية في الثمانينات، يتنفس شعب عريق يشويه القيظ كطائر «يرقص مذبوحاً من الألم».