بقلم - إنعام كجه جي
شيء يشبه الخيال، ذاك الذي جرى في المختبرات المغلقة لمعهد باستور في باريس. ففي ليلة ظلماء اختفت فئران تجارب «كورونا» وتأخرت فرنسا عن الوصول إلى لقاح. وهي حكاية غيرة وحسد وكيد. ولا تفتش عن المرأة هذه المرة، إن كيدهم عظيم أيضاً.
انفردت بنشر التحقيق مجلة «باري ماتش». وكان معهد باستور العريق قد نفض يديه من السباق، في الشهر الماضي. أعلن علماؤه فشل تجاربهم. لن يكون هناك لقاح فرنسي ضد الفيروس الذي يأخذ البشرية رهينة. والسبب المعلن هو نقص فاعلية التجارب الأولى على اللقاح في المختبر. ثم جاء تحقيق المجلة ليكشف أن السبب الحقيقي منافسة غير شريفة بين علماء المعهد. حكاية تليق بكارتون توم وجيري.
لم يكن اسماهما توم وجيري، بل فريدريك تانغي ونيكولا إسكريو. الأول رئيس قسم تطوير اللقاحات في المعهد، والثاني باحث متخصص في عقاقير أمراض الجهاز التنفسي. إن أنظار العالم كله تتجه إلى قبضة تكبح الداء. والباحثون في مختبرات الدول العظمى يصلون الليل بالنهار لبلوغ الهدف. ومن يسبق ينال الشهرة والثروة. سيكون منقذ البشرية من الفك المفترس. وقد ينال «نوبل». وكان بين الطامحين ألمان وأميركان وإنجليز وروس وصينيون... وباحثان فرنسيان.
سبق لفريدريك أن عثر على لقاح للنوع الأول من وباء «سارس». وهو قد أدرك بأن الفيروس الجديد الآتي من الصين يشبه ذلك الوباء في بداياته. وهكذا باشر سريعاً، مع فريقه، في مشروع للقاح ضد «كورونا». لكن نيكولا لم يكن راضياً عن انفراد زميله بقيادة فريق البحث. قاطع المشروع وراح يحجب المعلومات عن الفريق. ثم انطلق وحيداً في تجارب خاصة.
استمر التنافس شهوراً. وذات صباح، اكتشف أحد العاملين اختفاء كل فئران التجارب من الأقفاص الزجاجية. وكان على الفريق أن يبدأ العمل من الصفر. أي طلب فئران جديدة وإعادة حقنها بالأمصال ومراقبتها لفترات معينة. تأخر المشروع كله. ضاع وقت ثمين محسوب بالدقيقة وتبددت مصاريف كبيرة.
لأكثر من قرن من الزمان ظل معهد باستور سبّاقاً في مكافحة الأمراض السارية. الخناق. الكزاز. السل. شلل الأطفال. الإنفلونزا. الحمى الصفراء. الجمرة الخبيثة. الطاعون. التهاب الكبد الوبائي. وفي عام 1983 توصل باحثوه إلى عزل الفيروس المسبب لمرض نقص المناعة المكتسب «إيدز». منجزات أتاحت لعشرة من باحثي المعهد الفوز بجائزة «نوبل».
وصفت المجلة ما حدث لتجارب لقاح «كورونا» بأنه غيرة داخلية حمقاء. خرجت فرنسا من السباق بفعل «حماقة». سبب وجيه لأن تطقطق عظام لويس باستور في قبره. دفنوه في قبو معهده الذي أسسه عام 1888. جمع التمويل من اكتتاب في فرنسا وخارجها. تبرع له الأثرياء تقديراً لعلمه. كان أول من اكتشف لقاحاً لداء الكلب. طلب منه نابليون الثالث أن يجد علاجاً لفساد الأنبذة فتوصل، أيضاً، إلى حل لمعالجة أمراض الحليب غير المعقم. جاءت «البسترة» من باستور. وهناك اليوم 361 مدرسة تحمل اسمه في عموم فرنسا. و2020 شارعاً. عدا عن شوارع ومدارس في المستعمرات الفرنسية السابقة. ولما تحررت تلك المستعمرات أزالت كل الأسماء الأجنبية لكنها حافظت على باستور. عند قبوله عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ألقى كلمة تساءل فيها: «ماذا يوجد وراء هذه القبة المرصعة بالنجوم؟ سماوات جديدة مرصعة بالنجوم؟ ليكن! فعندما تستعصي فكرة اللانهاية على الإدراك على المرء أن ينحني». ثم جاء أحمق مغرور خسف بقبة باستور من عليائها.