بقلم - إنعام كجه جي
غبت عنها خمس سنوات وعدت لأجدها قد نضجت بما يحتاج لخمسين سنة. إنها أصيلة، البلدة المغربية الشمالية التي صارت مدينة ممتدة طولاً وعرضاً. وهناك من المدن ما يكبر عشوائياً. لكن هذه البلدة المتكئة على كتف الأطلسي اتسعت بكثير من الذوق وحسن التخطيط. يكفي أن تتفرج على تنظيم رصيف الكورنيش المرصوف بالمويجات والمزروع بطفلات النخيل لكي تتأكد أن وراءها عيوناً فنانة ترعاها.
جئتها للمرة الأولى، قبل أربعين عاماً. التقيت عمدتها محمد بن عيسى وسمعت منه كلاماً أشبه بأحلام بعيدة التحقيق، أو بنوايا حسنة تعوزها الإمكانات، ولا بد وأن تحبطها الظروف. كان يراهن على التنمية من خلال الثقافة. رهان لذيذ مثل حلوى شعر البنات، وهشّ مثلها. وكنت آتية من بلد نفطي غزير الثروات، أدرك كم أن في مقدور المال أن ينخر الثقافة.
لم تتأخر أصيلة عن موعدها رغم الزلزال والحرب. الثقافة سلاح. أعود إليها فتبهرني بفنادقها ومنتدياتها وأسواقها وبنظافتها. كانت تشتمل على فندقين شعبيين ثم ظهر فندق ثالث متعدد الطوابق، واحتفلنا بدخول أول مصعد كهربائي إلى البلدة. وها نحن في الدورة 44 من موسمها الثقافي، يحلّ المدعوون في فندق حديث قبالة المحيط، على شمرة عصا من قاعة الندوات. بيننا من يكابر ويسير على قدميه وبيننا من يذهب راكباً.
كتبت عنها، في تلك الزيارة الأولى المبكرة أنها مدينة مرسومة باليد. واليوم ما زالت جدران المدينة القديمة مرسومة وملونة بريشة فنانين موهوبين، وبأنامل أطفال جاءوا إلى ورشات مع الكبار. هاكم الحيطان البيض واتركوا عليها خيالاتكم بكل الألوان. لا تمسوا النوافذ الزرق المشرعة على السماء. لم تعد أصيلة مدينة مرسومة فحسب، بل منحوتة، تتوزع في ساحاتها نصب حجرية ومعدنية في منتهى الحداثة. صارت قبلة للشباب من فناني المغرب وفناناته.
غير أن عراب أصيلة (هكذا سمّيته) كان حديدياً في إيمانه بمشروعه. واصل الدأب ومضى يؤسس لموسم سنوي يمتلك شروط الاستمرار. وأول تلك الشروط الاعتماد على فنانين معروفين من رفاقه يشاركونه الحلم، ثم تنشئة شباب وشابات يساعدونه في العمل ويكونون خير مرافقين لضيوف الموسم.
الضيوف كثر، يزدادون دورة بعد أخرى. إلى هذه البلدة جاءت أسماء كبيرة عربية وعالمية. أحاول جمعها فتسعفني الذاكرة بالقليل: الإيطالي ألبيرتو مورافيا ومواطنه إيتوري سكولا، البرازيلي خورخي أمادو، المصريون يوسف إدريس ولويس عوض وأحمد عبد المعطي حجازي وأنيس منصور وبهجوري، والسوداني الطيب صالح، والسوري أدونيس، والفلسطيني محمود درويش ومواطنته سحر خليفة، واللبناني غسان سلامة ومواطنه مرسيل خليفة، والعراقي منير بشير ومواطنوه سعاد العطار ورافع الناصري وبلند الحيدري.
يوم صار سي بن عيسى وزيراً للثقافة، تيسرت له سبل إضافية. لكن رداء الوزير لم يسلبه شمائله. وحتى عندما أصبح سفيراً في واشنطن ثم تسلّم حقيبة الشؤون الخارجية، بقي يخصص لأصيلة جانباً أساسياً من وقته. نجح في نقل الموسم من جمعية محلية إلى مؤسسة لها امتداد عالمي. لا يكفيه أنه مثقف متعدد الاهتمامات، ولا إجادته لخمس لغات، ولا كونه رجل علاقات عامة من الطراز الأول، بل إن خصلته الأولى هي صداقاته التي يخلص لها والوفاء الذي تحفظه أصيلة لكل من ساهم في موسمها.
نجح الرهان ولعبت الثقافة دورها في تنمية البلدة التي كانت قرية صيادين. يتمنى كل زائر لها أن تتحقق لبلدته أو قريته المعجزة التي تحققت لأصيلة. والمعجزات لا تنزل من السماء بحبال وردية. يلزمها الوفير من الإيمان والجهد والإصرار والكثير الكثير من الحب.