بقلم _سمير عطا الله
تدور رواية «مقبرة المياه» للدكتور محمد عبد المطلب الهوني، في فصول كثيرة وبلدان كثيرة وبؤس عربي واحد. ويبدأ زمنها في مدينة حماة وأحداثها المرعبة منتقلاً بأبطالها إلى الرقة، منتهياً في زوارق المطاط على الشواطئ، أو بالأحرى، في المياه الليبية المالحة.
يقدم محمد الهوني نفسه على أنه «روائي من ليبيا»، مغفلاً صفة المفكر التي رافقته طويلاً، لكن المفكر يلازم الروائي على مدى 350 صفحة ولا يتركه لحظة واحدة. ولا يكف عن طرح الأسئلة، عملاً بالقاعدة الفكرية القائلة إن السؤال التنويري أهم من الأجوبة.
كأنما شاء الهوني لروايته أن تكون ملحمة سردية يعبُر أبطالها العقود والحدود. وعلى الطريق يلملم كل التفاصيل في حياة الناس، حتى الكثير الواقعية منها. فمن أجل الضعة الروائية لن يتوقف عند الضوابط الاختيارية. والصدمة الروائية تقتضي نقل الطبيعة كما هي، على أساس أن الملامح تعبر عن الحقائق والسيماء على الوجوه.
العجيب في «سرد الهوني هو التفاصيل. التي هي عادة زاوية البناء الروائي. أنك لا تعرف كيف بحث عنها ولا كيف عثر عليها. وهو يكثفها في الوصف وفي الحوارات على السواء. ويستغل الصيغة الحوارية لكي يُدخل فيها أفكاره السياسية عبر المراحل، أو ثقافته التاريخية كمثل النقل عن آدم المؤرخين هورودوتس، قوله: إن الجديد يأتي دائماً من ليبيا».
الحزين يأتي منها أيضاً. فالرجل عاش تجاربها القاسية من الداخل أيضاً. وكان واحداً من نخبة الليبيين الذين تجمعوا حول سيف الإسلام القذافي على أمل تأمين انتقال هادئ للسلطة من مرحلة الصولجانات والتيجان والجماهيرية معاً. لكن الفوضى والمأساة سبقت كل شيء. وخرجت ليبيا من غيبوبة الزعيم الواحد إلى غيبوبة الزعماء الذين لا يمكن أن يتحدوا في سبيل أحد. وخرج سيف من الصورة مرتدياً القميص «السبور» المألوفة، ثم ظهر فجأة وقد ارتدى عباءة والده بلونها الصحراوي وذكرى الخيمة النقالة في عواصم الدنيا وحديقة قصر الإليزيه.
مؤسف أن تجربة سيف ورفاقه آلت إلى الفشل. وكان محمد الهوني والراحل محمود جبريل ومحمود شمام في طليعة المجموعة التي تخطط لهبوط هادئ والعودة إلى لُحمة عقلانية تعيد ليبيا إلى صف الدول الطبيعية بما تملك من ثروات وطاقات. مساحة هائلة من الأرض ونفر قليل من الناس. يقول الدكتور الهوني إن التاريخ الليبي تاريخ حروب مزمنة ودائمة.
من حماة إلى الرقة إلى حمص يتشبع السرد الدرامي الجميل عبقرية الأزمنة وعبق التاريخ: «الليبيون يتوجسون من البحر. وحتى في سنوات المجاعة كانوا يفضلون الموت جوعاً على اصطياد أسماكه. إن المدن التي شيدت على البحر كانت على الدوام مقصد التجار والقراصنة والغزاة، يتداولون عليها تداول الضباع وبنات آوى على الجيف».