بقلم : سمير عطا الله
كانت مسقط منذ خرجت من عزلتها أول مرة، قبل نصف قرن، دولةً تعيش خلف وحدتها. وفي الغالب، كانت تتخذ سياسة مغايرة للمدّ العربي من دون الاهتمام برد الفعل العام مهما كان، محتميةً بعزلتها الجغرافية، وبعدها عن خلافات العرب. وكانت تقريباً غائبة عن المشاجرات والأجواء المحمومة. وظلت بعيدة، بصورة خاصة، عن التوترات الإعلامية... لا صداقات، ولا عداوات، ولا زيارات إلا ما ندر.
خلف هذا الستار الشفاف أخذت تبني دولة حديثة، آمنة وخالية من السفسطة وصريف الأحناك. ذروة المخالفة للتيار العربي العام كانت رفض عُمان الوقوف مع سائر العرب في طرد مصر من «الجامعة»؛ بسبب «كامب ديفيد». أصبحنا نرى أنفسنا في موقف حرج إذا التقينا أو صافحنا صديقاً أو زميلاً عُمانياً في الشارع.
بعد عودة مصر، ذهبتُ إلى مسقط بدعوة من الصديق العزيز عبد العزيز الرواس، رحمه الله، ولم يكن فقط وزير الإعلام، بل الوزارة برمّتها. وكانت مهمته الأساسية إبعاد الإعلاميين وإزعاجهم، وعدم تشجيعهم على الزيارة مرة أخرى. كل ذلك بمنتهى اللطف واللياقة والضحكة العريضة. ذهبتُ إلى مسقط بعد خروجه من الوزارة، وسألت عنه، فقيل لي إنه مع السلطان قابوس في أواسط البلاد.
كلّمته، فقال لي: سوف أرسل إليك سيارة تحضرك إلى هنا. أولاً: سوف تسلم على السلطان. وثانياً: سوف تتعرف إلى عُمان التي لا تعرفها.
على الغداء البسيط، كان عبد العزيز ينتظر ليسدد حساباً قديماً غاب عن بالي نهائياً. قال: هل تذكر نقاشنا بشأن «كامب ديفيد»؟ قلت: أذكر. قال: هل تذكر ما قلته لك من أنه الاتفاق الوحيد الذي يتضمن حكماً ذاتياً للفلسطينيين، ولن يكون للعرب اتفاق سواه؟
لم أُجب. عاد الرواس يشرح من جديد. وبكل مودة، قال: يا صديقي أنت لم تقرأ الاتفاق رغم أن هذا واجبك بصفتك صحافياً، وحتى عربياً عادياً... لكنك تعرف سلفاً أنك سوف تكون ضده، وتخاف أن يقنعك.
دائماً أتذكر عبد العزيز الرواس، وأتذكر شجاعته وصراحته... وأتذكر كيف تغيب مسقط بين صخورها الهائلة، ثم تظهر فجأة وهي تستضيف قضية من القضايا الصعبة.
ما الأشد صعوبة: إيران أم أميركا؟ كلتاهما أصعب من الأخرى، لكن عُمان كانت تهيئ في الظل للجمع بين الأضداد. تعرف الطرق العريقة بين الصخور.