بقلم - أمل عبد العزيز الهزاني
في عام 2004، منح حلف شمال الأطلسي «الناتو» العضوية لمجموعة دول من شمال أوروبا الشرقية إلى جنوبها؛ إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وبلغاريا وهنغاريا. جغرافياً، تمثل هذه المساحات حائطاً بين أوروبا الشرقية وروسيا التي كانت تضم كل هذه الدول قبل الانهيار الصامت لجمهوريات الاتحاد السوفياتي.
استمر «الناتو» في إطلاق الوعود لدول شرق أوروبية بمنحها عضوية الحلف، وهي عضوية تعني رسمياً انتقال هذه الدول من الحظيرة الروسية إلى حظيرة الغرب. لم تكن وعود «الناتو» إلا استفزازاً صريحاً لروسيا، التي تشعر أن رصيدها ينسحب منها شيئاً فشيئاً، وربما لم تكن لتقدر على مواجهة الغرب وقتئذ بعد أن انتهت الحرب الباردة بوعود الاحترام المتبادل الذي نسيته كل الأطراف. لكن من سوء حظ «الناتو» أنه يواجه اليوم عراقيل ليست هينة في سبيل ضم كل أوروبا إلى عباءته. أهم هذه العراقيل هي كاريزما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وشهيته المفتوحة لخوض المخاطر. هذا الرجل نموذج فريد للبراغماتية السياسية، يؤسس لمصالح وعلاقات تبدو متناقضة لكنه بارع في أن يحتفظ بها على مسافات محسوبة. الروس ليسوا على وفاق مع الإيرانيين في سوريا، الساحة التي جمعتهم منذ ما يقارب عقداً من الزمن. يحاول الإيرانيون تجنب الصدام مع روسيا التي تبني قواعدها وتؤسس لبقاء طويل في البحر الأبيض المتوسط. موسكو تذكر طهران أنها هي من أنقذتها في الصراع السوري وأنقذت نظام بشار الأسد ولولاها لكان انتهى. العلاقة بين البلدين، روسيا وإيران، ليست متكافئة، لروسيا يد طولى تحكم فيها العلاقة وتستثمرها ضد الطرف الأميركي العاجز في فيينا. استقبال بوتين للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مؤخراً لم يحمل جديداً، سوى توجيه رسالة لواشنطن أن روسيا تمسك بخيوط مهمة في الشرق الأوسط، ومع أن إدارة الرئيس بايدن أظهرت صدوداً عن المنطقة وقضاياها متفرغة لغريمتها الصين إلا أنها بالكاد تحركت في هذا الاتجاه حتى تقاطعت مع الروس في أوكرانيا.
نتذكر أن الرئيس السابق دونالد ترمب لم ينظر إلى حلف «الناتو» بتقدير كبير، وكان يعتبر أن عمره الافتراضي انتهى، كانت وجهة نظره قائمة على أساس أن الولايات المتحدة قوة بذاتها لا تحتاج للانضمام لتحالف عسكري مع الأوروبيين. هذا الموقف أثار الارتياح لدى موسكو، لأنها ترى في «الناتو» اعتبارات سياسية وليست عسكرية كما يقيمها ترمب. إدارة بايدن التي بدأت فترتها الرئاسية بمعاكسة سياسات ترمب، أعادت رفع ورقة «الناتو» أمام الروس، كحاضنة سياسية لمكونات التركة السوفياتية. ضم شبه جزيرة القرم لروسيا حصل عام 2014 بعد استفتاء شعبي، لم يرضَ الغرب بهذه الخطوة الجريئة لكن الملف ظل معلقاً حتى جاء بايدن. لنتذكر أن أوكرانيا بلد كبير بمساحته وكثافته السكانية (42 مليون نسمة)، وفي الواقع، لم يتبقَ للروس من ماضيهم سوى أوكرانيا وجورجيا، وفي وجود بوتين المستمتع بزحفه غرباً، لن يكون من السهل تحريك هذا الملف.
السؤال؛ من سيتقدم بخطوته أولاً؟ بوتين أم بايدن؟
أم أن الاثنين بحاجة إلى شرارة تشعل الموقف كما حصل في الحرب العالمية الأولى حينما اغتال طالب صربي ولي عهد النمسا؟
الأكيد أن إدارة بايدن ليست متحمسة لعمل عسكري طويل من أجل أوكرانيا، وإدارة ظهرها للشرق الأوسط تعني أن أولوياتها تغيرت، لكن أحياناً تتجه الرياح بعكس إرادة السفن. موسكو قوتها ليست عسكرية فقط، لكن دبلوماسيتها أيضاً قوة ناعمة مؤثرة. تحرص على علاقة وطيدة مع الخليج، خاصة السعودية والامارات، وهي شريك مهم للرياض في أوبك بلس، ولا تمانع في تسوية معهم بخصوص الملف السوري. كما أرسلت شركاتها النفطية إلى ليبيا من دون أن تجد اعتراضاً من المرتزقة المحسوبين على تركيا.
موسكو لا تحرق أوراقها، لكنها أيضاً لا تتقيد بأي جناح سوى ما يهمها للمضي بمصالحها العليا لتتبوأ مكانها الذي يوافق هوى بوتين.
أوروبا اليوم خلف واشنطن في القضية الأوكرانية، حتى ألمانيا القوة الأكبر في أوروبا، القلقة من التوتر الحالي، تجد نفسها مضطرة للبقاء مع الجماعة على أن تتفرد بموقف خاص بها.
لم تجدِ العقوبات مع الروس، العسكرة مستمرة في الحدود الشرقية لأوكرانيا، لكن هل ما نسمعه هو قرع طبول الحرب؟ ربما أنها أصوات المحتجين عليها..
في عهد الرئيس بيل كلينتون، دخل «الناتو» وسط أوروبا لنصرة البوسنة والهرسك ضد الصرب. كانت معركة أخلاقية كما وصفها كلينتون بعد مجازر ارتكبها الصرب. اليوم الوضع مختلف، الحرب بين الغريمين الأميركي والروسي بشكل مباشر، لأسباب تتعلق بموازين القوى، تحت أعين التنين الذي يراقب عن كثب..