بقلم - أمل عبد العزيز الهزاني
قبل عام، أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف استقالته من عمله في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر». كان سبب الاستقالة تجاهل قيادات «الحرس الثوري» له بعدم إبلاغه بزيارة بشار الأسد الذي فوجئ بوجوده في طهران. عاد ظريف عن استقالته بعدما رفضها الرئيس الإيراني حسن روحاني. هذا قبل سنة مضت. أما قبل أيام فقد هدد رالعرب اليحاني نفسه بتقديم استقالته ما لم يعترف «الحرس الثوري» بمسؤوليته المباشرة عن تفجير الطائرة الأوكرانية التي أقلعت من مطار الخميني في طهران.
الذين ينتقدون سياسة إيران في المنطقة، خاصة في العراق ولبنان، بأنها تشكل لنفسها حكومة ظل تهيمن في الواقع على مؤسسات الدولة، عليهم أن يشاهدوا التركيبة السياسية داخل إيران نفسها. وصفة حكومة الظل، أو كما سماها حسن روحاني «الدولة التي تحمل البندقية» بدأت في إيران أولاً قبل تصديرها للخارج. وكذلك بدأت بعد نحو عامين من الثورة الخمينية عام 1979 لكن اتخذت قالبها واتضحت معالمها ومهامها بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، حيث برزت قوة مسلحة سميت «الحرس الثوري» وكذلك القوات التطوعية المسماة الباسيج، موازية للجيش، أخذت على عاتقها مهام تشكيل كتل مسلحة خارجية مثل «حزب الله» وحزب «الدعوة الإسلامية» و«فيلق القدس» وغيرها. وهذه القوى شكلت برعاية المرشد علي خامنئي استراتيجية الحكومة الموازية للحكومة الرسمية الممثلة دولياً، ومع الوقت، تفوقت عليها وأصبحت الحكومة الرسمية واجهة هشة لنظام عسكري متسلط التهم مقدرات الدولة وهيمن على القرار. روحاني وحكومته ووزراؤه في صدام مع الدولة العميقة منذ توليه الرئاسة، صدام سياسي واقتصادي. سياسياً يفخر روحاني أن حكومته أبرمت الاتفاق النووي مع الغرب واستردت عافيتها بعد مقاطعة اقتصادية دولية طويلة، لكن «الحرس الثوري» الذي يضم الطيف المتشدد المحافظ ينظر لهذا الإنجاز الحكومي بازدراء واستخفاف. ومع أن الاتفاق النووي لم يتطرق لوقف إيران لنشاطاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة إلا أن «الحرس الثوري» لم يكتفِ بذلك واستمر في استفزاز المجتمع الدولي والحكومة الإيرانية بنشاطات الصواريخ الباليستية التي كانت محرّضاً مباشراً على انقلاب إدارة الرئيس دونالد ترمب على الاتفاق. انسحاب واشنطن من الاتفاق ضربة لحكومة روحاني، ودلالة على ضعف قوته الداخلية، وأنه مثل وزير خارجيته آخر من يعلم وآخر من يُستشار وآخر من يقرر. اقتصادياً الرئيس روحاني يردد للناس خلال المنابر أن نحو نصف اقتصاد بلاده في يد شركات «الحرس الثوري» وأهمها «خاتم الأنبياء»، التي هي بمثابة شركة قابضة استولت على قطاعات مهمة كالإنشاءات والنفط والاتصالات بعد خصخصة 80 في المائة من القطاع العام.
خلال الأيام الماضية اتضح حجم اتساع الشق بين روحاني و«الحرس الثوري» في قضية الطائرة الأوكرانية، وتعددت الاستقالات من الحكومة من شخصيات رفضت البقاء في حكومة ضعيفة بلا قرار، واشترط روحاني اعتراف «الحرس الثوري» بإسقاط الطائرة. وتم الاعتراف خوفاً من استقالة الرئيس التي قد تثير الإيرانيين في الداخل على المرشد خامنئي في توقيت سيئ، مع ذلك اشتعلت الاحتجاجات ضد «الحرس الثوري» الذي تسبب في جلب غضب دولي مضاعف على إيران.
والحقيقة أنه بمراجعة سياسة نظام الملالي منذ قيام الثورة وحتى اليوم، يمكن جدولة الأعمال الإرهابية التي قام بها النظام عمداً ضد خصومه، ولا أريد أن أخسر مساحة هذا المقال في تعدادها، لكن من أبرزها مقتل أكثر من 300 أميركي عسكري ومدني في لبنان في تفجير السفارة الأميركية وثكنة للمارينز، وتفجيرات الكويت في عام 1983 فقط. تعاقبت بعد ذلك الأعمال الإجرامية من تفجيرات وخطف طائرات واغتيالات وعمل مافياوي منظم يعمل من خلال المقار الدبلوماسية ورجال الأعمال. العالم كله كان يعرف أن هذا النظام بعقيدته السياسية وليس بشخوصه، هو نظام إرهابي ولن يتغير، مع ذلك حاول الغرب استمالته للحد من جنونه، فكان الاتفاق النووي. ولم يدرك الغرب خصوصاً الأوروبيين الكبار؛ فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلا اليوم حقيقة مهمة وهي: أن الاتفاق تم توقيعه مع حكومة مهمشة وليس مع الدولة التي تحمل البندقية!
الإدارة الأميركية بصقورها الحاليين أدركت هذه الحقيقة وكما قال مايك بومبيو وزير الخارجية: «هدفنا صناع القرار الفعليون». منهم قاسم سليماني الذي كان مقتله بمثابة زلزال هز كيان الثورة الخمينية ولم يسبق له مثيل منذ أربعين عاماً. هذا الزلزال كما بررت قيادة «الحرس الثوري» هو الذي أربك إصبع الضابط فضغط زر إطلاق الصاروخ بالخطأ وأصاب الطائرة الأوكرانية. خطة مقتل سليماني بغارة جوية، ونشر مشهد الاستهداف أراح قلوب الكثيرين في إيران والدول العربية ممن كانوا ضحايا لإجرامه، وأظهر إيران بحرسها ومرشدها في وضع الصدمة، وكشف الوجه الحقيقي للقوة الوهمية التي كانت تتخذ الإرهاب قناعاً.
هذه المرحلة هي من أكثر المراحل حساسية في التعامل مع هذا النظام. هذا ما دفع واشنطن لفرض مزيد من العقوبات قبل يومين على كيانات وشخصيات إيرانية، والتأكيد على معاقبة أي دولة تتجاوز هذه العقوبات. لن أذهب بعيداً لأقول إن النظام الإيراني آل للسقوط، ولكن الواقع أنه يمر بأسوأ أيامه على الإطلاق، في الداخل والخارج.