بقلم -تركي الدخيل
تفاخر العرب على غيرهم من الأمم، وتفاضلوا على بقية الشعوب، بما حوت لغتهم من بيانٍ، قالوا عنه: «البيانُ بَصَرٌ، والعَيُّ عَمَى، كما أن العِلمَ بَصَرٌ، والجَهل عَمَى، والبيانُ من نِتاج العِلم، والعَيُّ مِن نِتاج الجَهل». ولذلك اعتبر أهل البلاغة «شِعرُ الرجلِ، قطعة من كلامه، وظنه قطعة من علمه، واختياره قطعة من عقله». وحثّ علماء اللغة، على الإيجاز، فاعتبر أكثم بن صيفي البلاغة هي الإيجاز، وقال جعفر بن يحيي لكُتَّابه: «إن قدرتم أن تجعلوا كُتُبَكُم توقيعاتٍ فافعلوا»، ونقل أبو هلال العسكري قول عربيٍ يحث على الإيجاز: «ما رأيتُ بليغاً إلا رأيتُ له في المعاني إطالةً، وفي الألفاظ تقصيراً». وفي الأجواء السابقة نشأ فن التوقيعات الأدبي، الذي بدأ في عهد الخلفاء الراشدين، ثم توسع في العهد الأموي، وازدهر وبلغ ذروته في العصر العباسي، ثم امتد أثره إلى الأندلس. والتوقيعات فنٌ تفرد به العرب، واستحقَ أن يكون في أدبهم باباً من أبوابه، فاحتل مكانة رفيعة في تاريخ الأدب العربي، بين الفنون النثرية كافة، مثل الخطابة، والكتابة، والرسائل، والوصايا، والمقامات.
والتوقيعاتُ هي تذييل الخليفة، أو وزيره أو نائبه، على رسالة موجهة إليه من الولاة أو الوزراء أو غيرهم من عمّال الدولة، أو على شكوى أو مظلمة رفعها للخليفة أحد رعاياه. ثم امتدت من الخلفاء إلى الوزراء، وقادة الجيش، وأصحاب الولايات، وغيرهم.
وتميز فن التوقيعات على غيره، بشروط لا يتحقق إلا بها، وهي: الإيجاز، والبلاغة، والدلالة على المعنى، والإقناع.
ويعتبر البعض أقدم ما وصلنا من التوقيعات، ما كتبه أبو بكر الصديق، رداً على رسالة خالد بن الوليد، من دومة الجندل، يطلب أمره في أمر العدو، فوَقَّع أبو بكر: «ادْنُ من الموت توهبْ لكَ الحياة». وما كتبه عمر بن الخطاب، رداً على استئذان سعد بن أبي وقاص، ببناء دار الإمارة بالكوفة، فوَقَّع عمر: «ابن ما يُكِنُّكَ من الهواجِرِ، وأذى المطر».
ووَقَّع الفاروق على كتابٍ لعمرو بن العاص: «كن لرعيتكَ كما تُحبُّ أن يكونَ لكَ أمِيرُك».
وَكتب الْحُسَيْن إِلَى أبيه؛ عَلي بن أبي طالب، فِي شَيْء من أَمر عُثْمَان بن عَفَّان، فَوَقَّع إِلَيْهِ: «رَأْيُ الشَّيْخِ، خيرٌ من مَشْهَد الْغُلَام». وَوَقَّع مُعَاوِيَة بن أبي سفيان (ت 60 هـ): «نَحنُ الزَّمَانُ، من رَفَعنَاهُ ارْتَفَع، وَمن وَضَعنَاهُ اتَضَع». وأخبر عامل حِمص عمر بن عبد العزيز (ت 101 هـ) أن مدينته تحتاج حصناً، فوَقَّع: «حَصِّنها بالعدل. والسلام».
ووَقَّع هشام بن عبد الملك (ت 125 هـ) في قصة مُتَظَلِّم: «أتاكَ الغَوثُ إن كُنتَ صَادقاً، وحَلَّ بِكَ النَكَالُ إِن كُنتَ كَاذِبَاً؛ فَتَقَدَّمْ أَو تَأَخَّرْ».
ووَقَّعَ مروان بن محمد (ت 132 هـ) إلى ابن هبيرة: «الأمر مضطرب، وأنت نائم، وأنا ساهر».
ووَقَّع المهدي (ت 169 هـ) إلى صاحب خراسان، في أمر جاءه: «أنا ساهرٌ، وأنتَ نائم».
ووَقَّع هارون الرشيد (ت 193 هـ) في قصة رجل من البرامكة: «أنبتَتْه الطاعة، وحصدَتْه المعصية».
وكتبت رسالةٌ ركيكَةٌ بِخَطٍ جميل، ليحيى بن خالد البرمكي (ت 176 هـ)، فوَقَّع: «الخَطُ جِسمٌ رُوحُهُ البلاغة، ولا خَيرَ في جِسمٍ لا رُوحَ فيه».
ووَقَّع جعفر بن يحيى بن خالد (ت 187 هـ) إلى أحد عُمَّالِه: «قد كَثُرَ شَاكُوكَ، وقَلَّ شَاكِرُوكَ، فَإِمَا عَدَلتَ، وإلَّا اعتَزلت». وَوَقَّع المأمون (ت 218 هـ) إِلَى الْوَاقِدِيّ، وَقد كتب يذكر ديناً عَلَيْهِ ويستمنح: «فِيك خصلتان: سخاء وحياء؛ أما السخاء فَهُوَ الَّذِي أطلق يدك فِيمَا ملكت، وَأما الْحيَاء فَهُوَ الَّذِي حملك على أَن ذكرت بعض دينك دون كُله، وقد أمرتُ لَك بِضعْفِ مَا كَتَبتَ، فَزِد فِي بَسطِ يَدِكَ، فَإِن خَزَائِن الله مَفْتُوحَةٌ وَيَدُهُ بِالْخَيرِ مَبسُوطَة».
ووَقَّع إسماعيل بن صبيح إلى بعض الرؤساء: «في شكر ما تقدَّم من إحسانكَ، شَاغِلٌ عن استبطاءِ ما تَأخَّر مِنه».
وَوَقَّع طاهر بن الحسين (ت 207 هـ) في رقْعَة مستبطئ إِيَّاه فِي الْجَواب: «تَركُ الْجَوَابِ جَوَابٌ».
ووَقَّع الفضل بن سهل السرخسي (ت 193 هـ) إلى صاحب الشرطة: «تَرَفَّقْ تُوَفَّقْ».
وكتبَ إلى الحسن بن سهل (ت 232 هـ) رجلٌ يتوسل بسالف إحسانه، فَوَقَّع: «مَرْحَباً بِمن تَوَسَّلَ إِلَيْنَا بِنَا»، وَأمر لَهُ بِصِلَة.
ووَقَّع الْفَيْض بن أبي صَالح (ت 173 هـ)، فِي رقْعَة معتذر تائب: «التَّوْبَة للذنب كالدواء للْمَرِيض، فَإِن نَصحت تَوْبَتُهُ أَتَمَّ الله شِفَاءَه، وَإِن تكن الْأُخْرَى أدامَ اللهُ دَاءَه».
وَكتب بعض الْفُضَلَاء إلى الصاحب بن عبَّاد (ت 385 هـ)، يعْتَذر من التَّقْصِير فِي خدمته لخوف التثقيل، فَوَقَّع: «مَتى يثقل الجفن على العين».
ووَقَّع ابنُ الزيات (ت 230 هـ) إِلَى بعْض عماله: «توهمتُك شهماً كَافِياً، فوجدتك رسْماً عافياً، لَا محامياً وَلَا واقياً».
ووَقَّع ذو الرياستين (ت 223 هـ): «استدم بالشكر بقاء النعمة، وبالطاعة علو المنزلة، وإياك أن يورطك هواك فيما لا بقيا معه عليك، إن شاء الله تعالى».
ووَقَّع ابن يزداد (ت 230 هـ) في وزارته إلى عامل اعتد بباطل: «ما يبين لنا منك حسن أثر، ولا يأتينا عنك سار خبر، وأنت مع ذا تمدح نفسك، وتصف كفايتك، والتصفح لأفعالك يكذبك، والتتبع لآثارك يرد قولك، وهذا الفعل إن اتكلت عليه وأخلدت إليه، أعلقك الذم وألحقك العجز، فليكن رائد قولك مصدقاً لموجود فعلك، إن شاء الله».
ومن شِدة تعلقهم بالتوقيعات، وفتنتهم بها، اعتبروا إمضاء ما في التوقيع هو السرور بعينه. قيل للحسن بن سهل: ما السرور؟ قال: «توقيع جائز، وأمر نافذ».
وأورد بعض الأدباء في كتبهم توقيعات ملوك العجم المتقدمين، فمنها ما رُفِعَ إلى ملك فارس أنوشروان، الملقَّب بالعادل، وهو أول الأكاسرة، (ت 579 م)، أَن بَيت مَاله قد شَارف الْخَلَاء، فَوَقَّع: «الملك الْعَادِل لَا يَخْلُو بَيت مَاله». ولما رفع إلى الإسكندر صَاحبُ جَيْشه، يذكر مَا يُشِير بِهِ بعض سقاط الْعَسْكَر من اغتيال الْعَدو، وَقَّع: «لَا تستحقرن الرَّأْي الْجَلِيل يَأْتِيك بِهِ الرجل الحقير، فَإِن الدرة الْكَرِيمَة لَا يستهان بهَا لهوان الغائص».
ووَقَّع حكيم الفرس وملكهم، أزدشير بن بابك (ت 242 م)، في أزمةٍ عَمَّت بلاده: «من العدلِ ألا يفرحَ الملكُ ورَعِيَّتُهُ محزونون»، ثم أمر ففرّق في الكور جميع ما في بيوت الأموال.
وبالجملة، فالتوقيعات فن من الآداب النثرية العربية العريقة، عبارته رشيقة، وبلاغته أنيقة، يُظهر جماليات اللغة، ورسوخ مكانتها، في إيجاز اللفظ، وثراء المعنى، وبلوغ التأثير، ومن المؤسف أن فن التوقيعات خبا بعد سطوع، وانحسر بعد ما انتشر، فهل يظهر بعد أن اندثر؟ وهل تكتب له حياة بعد طول ممات؟! أتمنى، وإن عزَّ تحقيق المُنى!