لا أزال أتذكر رجلاً كان يملأ وِجدَانِي مَهَابةً وإجلالاً، حين أَرَاهُ في صِبَايَ، يغشى محافل العائلة، واجتماعاتها. كانت السِّمَةُ، التي تغمرني فيه تهيباً؛ طُولَ صمته، وَقِلَّةَ حديثه، فقد بدا لي، مُستَغنِيَاً عن الكلام، زاهداً في فضول الحديث، غير مُبالٍ بأن ينطق، أو يُصغِيَ إليه أحد. وزاد إعجابي به أنه إذا تَكَلَّمَ سَلَبَ إِنصَاتَ الحضور، فَشَخَصَت لهُ الأبصار، وشُنِّفَت لحديثه الآذان، فجذب الاهتمام، مع بالغ التقدير والاحترام.
لا أعلم، وأُحَدِّثُكُم بصراحة، إن كان صمته الطويل هو سِرُّ إصغاء القوم إليه، حين يَعِنُّ له الكلام، أو أن كلامَه كان عَالي القيمة، ولذا يُقَدِّرُه الناس تقديرَهم للأحجار الكريمة، التي صارت كريمة لِنُدْرَتِهَا.
وأظنكم، يا سادة، تذكُرُون أشخاصاً لهم هيبتهم، وقدرهم الرفيع، يجمع بينهم ما يبدو عليهم من جَلالٍ، وحُسْنُ سَمْتٍ، لإتقانهم فضيلة الصمت.
ولا يُلام الناس في تقدير الصامتين، فالصمت يكسو صاحبه مهابة، ويوحي لك بأن الصامت مُتَرَفِّعٌ عن صغائر الأمور؛ إذ يرى معظم الأمور صغائر، وأنه يصقل بالسكوت سيف لسانه.
على أن في الصامتين، من يُعَدُّ صَمتُهُ سِتراً لحاله؛ حتى إذا نطق أظهر سوء بضاعته، فأيقن الناسُ أنهم اسْتَسْمَنُوا بِسكوتِهِ وَرَمَاً.
قال أبو الدَّرداء: «تَعَلَّموا الصَّمتَ كما تَعَلَّمون الكلامَ؛ فإنَّ الصَّمتَ حِلمٌ عظيمٌ، وكُنْ إلى أن تَسمَعَ أحرَصَ مِنك إلى أن تَتَكَلَّمَ، ولا تَتَكَلَّمْ في شيءٍ لا يَعنيك». وقال علي بن أبي طالب: «أفضَلُ العبادةِ الصَّمت، وانتِظارُ الفَرَجِ». وكان يقالُ: «الحِكمةُ عَشَرةُ أَجزَاءٍ: تِسعَةٌ منها في الصَّمتِ، والعاشِرةُ عُزلةُ النَّاس». يقول عبدُ الرَّحمنِ بنُ شُرَيح: «لو أنَّ عبداً اختار لِنَفسِه، ما اختار أفضَلَ من الصَّمتِ». وأوصى الشَّافعي شابّاً مِن أصحابِه نصيحة تفوح حكمة، وتَعبِقُ عقلاً، فقال: «الزَمِ الصَّمتَ إلى أنْ يَلزَمكَ التَكَلُّم؛ فإنَّما أكثرُ مَن يندَمُ، إنَّما يندمُ إذا هو نَطَق، وقلَّ مَن يَندَم إذا سَكَت، واعلَمْ بأنَّ الرُّجوعَ عن الصَّمتِ إلى الكلامِ، أحسن مِن الرُّجوعِ عن الكلامِ إلى الصَّمتِ».
ومن بليغ كلام أكثَم بن صَيفي: «الصَّمتُ خيرٌ من عِيِّ المَنطِقِ».
ويشرح العنتري، بعض مزايا الصمت، بقوله:
من لزم الصمتَ اكتسى هَيبَةً تُخفِي عن الناس مَسَاوِيْهِ
لسانُ من يَعقِلُ فِي قَلبِهِ وَقَلبُ مَن يَجهَلُ فِي فِيهِ
تقول العرب: «رُبَّ كَلامٍ أَورَدَكَ مَوْرِدَ القِتَال». ونَصَحَ حكيمٌ ابنه، فقال: «يا بُنَيَّ، قِ (أي اتَّقِ) فَاكَ ما يَقرَعُ قَفَاك». ويُقَال: «مِلاكُ حُسن السَمتِ، إِيثَارُ الصَمتِ».
ولأبي العتاهية، عَجْزُ بيت يقول فيه:
الصمتُ إِن ضَاقَ، الكلامَ أَوسَعُ
قال عمرو بن عبيد: «كانوا يخافون من فِتْنَة القولِ، ومن سقطَاتِ الكلام، ما لا يخافون من فِتنَةِ السكوت، وسقَطَاتِ الصَمْتِ».
لابن السِّكِّيت:
يُصَابُ الفتى مِن عَثرَةٍ بِلِسَانِهِ وليس
يُصابُ المرءُ مِن عَثْرةِ الرِجْلِ
فَعَثْرَتُه بالقَوْلِ تُذْهِبُ رَأسَه
وعَثْرَتُه بالرِجْلِ تَبْرا على مَهْلِ
ولأبي بكر الصديق:
عَجِبتُ بِإِزراءِ العَيِيِّ بِنَفسِهِ
وَصَمت الَّذَي قَد كَانَ بِالقَولِ أَعْلَمَا
وَفي الصَمتِ سَترٌ لِلعَيِيِّ وَإِنَّما
صَحيفَةُ لُبِّ المَرءِ أَن يَتَكَلَّمَا
قال بعض الحُكماء: «إذا جالستَ الجُهَّال فأَنصِتْ لهم، وإذا جالستَ العُلماءَ فأَنصِت لهم، فإنَّ في إنصاتك للجهال زيادة في الحِلم، وفي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم».
ولابن المعتَز، مقولة بليغة: «إذا تَمَّ العَقلُ نَقَصَ الكلام». وهي عبارة موجزة، لكن معانيها تستحق الإطناب، فكراً وشرحاً، فالصمت عين السلامة، ولُبُّ الفرار من الندامة، ومن طال صمته لزمت هيبته، ومن كثر كلامه كثر سَقْطُه، واستحكمت زَلَّتُه، فانحدرت مكانته، وانحط قدره.
وما يُجدي، أيها السادة، أن يتكلم المرء بكلام لا تدعو إليه حاجة، فلا مصلحة تفوت إذا قيل، ولا ضرر يقعُ إذا لم يُقل، ولا خير في كلام يقال في غير موضعه.
جلَسَ الأحنف بن قيس، سيد بني تميم، يوماً في ناديه، وعنده في المجلس شابٌّ طويل الصمت، فأعجب الأحنف بسمته وصمته، وحين خلا المجلس من الناس، قال الأحنف: تكلّم يا ابن أخي! فقال الشاب: يا عم! أرأيت لو أن رجلاً سقط من شرفة هذا المسجد، كان يضره شيء؟ فقال الأحنف: ليتنا تركناك مستوراً. ثم أنشد قول زهير:
وَكَائِن تَرى مِن صَامِتٍ لَكَ مُعجِبٍ
زِيادَتُهُ أَو نَقصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسانُ الفَتى نِصفٌ وَنِصفٌ فُؤَادُهُ
فَلم يَبقَ إِلّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وتمر بالناس أيام، يصبح فيها الصامت أقرب إلى السلامة، وأبعد عن الندامة، فكم من كلمةٍ أوردت قائلها المهالك، وكم من لسانٍ أَقَضَّ مضجع صاحبه، وألقى به في المخاطر والمعارك.
قال أحدهم:
استر النفسَ ما استطعتَ بِصَمتٍ
إنَّ في الصمتِ راحةً للصَّمُوتِ
واجعلِ الصمتَ إِن عَيِيِتَ جَوَابَاً
رُبَّ قَولٍ جَوَابُهُ في السُكُوتِ
ليس حديثنا الآنف، يا سادة، دعوة للصمت حتى الموت، ولا توجيه للصيام عن الكلام على الدوام، لكنه حَثٌ على اختيار الصمت حين يكون أنفع من الكلام، ودعوة إلى تَخَيُّر أطايب المعاني، وأجود الألفاظ، إذا لَزمك الحديث، وفيه يقول أبو الفتح البستي:
تَكَلَّم وسَدِّد ما استَطَعْت، فَإِنَمَا كَلامُكَ حَيٌّ، والسكوتُ جَمَادُ
فَإنْ لم تَجِدْ قَوْلاً سَدِيدَاً تَقُولُهُ
فَصَمْتُكَ عَنْ غَيْرِ السَدِيْدِ سَدَادُ
ونحن، يا كرام، في زَمنٍ طَغَى فيه الكلام، وانتشرت فيه الثرثرة، حتى كأننا في حفلة هذرٍ، يُقَالُ بلا سَبَبٍ، ويُرطَنُ بلا دَاعٍ. لقد كثر من يهذي بكل حديث مؤذٍ، واستفحل من يَهرِفُ بِمَا لا يَعرِف، فالصمتُ مذموم، إذ اعتلى الصوت بالحديث المحموم، والسكوت في عصرنا ممنوع، والعتب على المهذار مرفوع، لكن ذلك لا يُغَيِّرُ من الحِكمَة القائلة: «رَحِمَ اللهُ امرَأً قال خيراً فَغَنِم، أو سَكَتَ فَسَلِم».