عَشِقَ العربي الإبلَ فاشتقَ مِنها لُغَتَهُ

عَشِقَ العربي الإبلَ فاشتقَ مِنها لُغَتَهُ!

عَشِقَ العربي الإبلَ فاشتقَ مِنها لُغَتَهُ!

 العرب اليوم -

عَشِقَ العربي الإبلَ فاشتقَ مِنها لُغَتَهُ

بقلم - تركي الدخيل

مَنْ دَلَّ أسلافَنا على مناقِبِ الإبِلِ وفضائلها، فهاموا بها عشقًا، يُرَبُّونَها في الواقع ويَرْعَوْنَها في نُصوصِ خَيَالِهم؟ أَهوَ حَدْسُهم الفِطريُّ بأنّ الناقةَ أبْلَغ أسبابِ خير الدّنيا؟ أَمْ قسوة الصحراءِ وشقوتها؛ لاذُوا بالناقةِ لمواجهتها؟ أم وجدوا صَبْر الإبِلِ على المَكارِه، وبأسها في الشَّدائدِ، وغَضْبتِها وأخْذَتِها، قُدوَةً لصَبْرِهم وقوّة لبَأْسِهم، فاعتزّوا بها كنايةً عن اعتزازهم بأنفُسِهم؟!

ما كان للإبِلِ أن تَحوزَ منزلتها العَلِيَّة، في حياة العربي منذ القدم، لولا قُدرتها على أن تكونَ رافِدًا أصيلًا لمُعجَمِه اللغويِّ، لجهةِ أوصافِها، وأحوالِ هَدْأَتِها، وحَركتِها، وأصَواتِها، بل وألمها، وراحتها، وفرحها، وحزنها.

وهل عند العرب أعزُ من اللغة؟ بل هل عندهم أغلى من الإبل!

لا تسل، أيها القارئ الكريم، عن سعادتي، إذ وقفتُ مؤخرًا على كنزٍ معرفيّ، هو بحث د. عبد الرزّاق الصاعدي، عن «تعميم الدّلالة في ألفاظ الإبل»، ونُشر قبل نحو 27 عامًا، وردَّ فيه نشأةَ أربعين كلمة عربية إلى شَأنٍ من مُتعلِّقاتِ الجمل، وسمَّاها "ألفاظ الإبل"، مُعتمدًا على الشّعر القديم، وكُتب اللغة، المعنية بالاشتقاقات. وقبل أن يظن البعض بدكتورنا الظنون، ويحسب ما يزيد على ربع قرن مضت، حنت له ظهرًا، أو لحنت له لغة، أقول: هيهات، فله من اسمه نصيبٌ، وشأنه صعود في صعود... وكتب عن نفسه أنه بين 17 و24 عاماً كان يعمل سائق شاحنة من الفجر إلى العصر، وبعد العشرين التحق بثانوية ليلية، وكان منهج الأدب رفيقه في شاحنته، يحفظ الشعر الجاهلي، بين شحنة ينقلها وأخرى، ولما تخرّج في الثانوية، ترك التجارة متفرغا للجامعة، فواصل، حتى حصل على الدكتوراه في اللغويات، وترقى أكاديميا وهو الآن بروفيسور. ألم أقل لكم إن له من اسمه نصيبًا، وأن شأنه في صعود. وكما أن الإبل حضرت في حياة العربي ولغته وخياله، حضر الخيال عند البروفيسور الصاعدي، بلغة العصر، وعوالمه الافتراضية، فأسس مجمع اللغة الافتراضي، وعقد جلساته من على مقاعد تويتر، ولما بليت المقاعد، استبدلها بآرائك X، يأتلف أعضاء المجمع متأبطين حواسيبهم المحمولة، مبحلقين في شاشات هواتفهم المنقولة، يصوتون على قرارات، مثل: «إقرار إدخال كلمة (حادوشاء) معجم اللغة العربية، مشتقة من الحادي عشر، اشتقاق نحت، قياسا على تاسوعاء، وعاشوراء»، لا يمنعهم من التصويت، إلا انتهاء اشتراك أحدهم في الإنترنت، أو عجزه عن التقاط بث الجيل الخامس النتية.

أعود لبحث البروفيسور الصاعدي الماتع، الذي أكد فيه أن علاقة العربي بالإبل، عميقة الجذور، بما يجعلها ركنه الركين سلما وحربا، حلا وترحالا، سعة وضيقا. أما والعربي، هو ابن الصحراء، الخبير بقسوتها، المدرك لمشقتها، فيقينه قطعي ألا صديق له ولا رفيق كإبله!

ومن تعميم دلالة ألفاظ الأبل، جاء بكلمة «الجسور»: وهو الجرئ الشجاع المقدام، وقد نُقلت من الإبِل؛ فـ«الجَسرة: الناقة القوية، ويقال: هي الجريئة على السير، ... والجَسْرُ: العظيمُ من الإبل».

أما "البركة": وهي النماء والزيادة، وثبوت الخير الإلهي في الشيء ودوامه. وتبارك الله: مجيد وتجليل وتقديس. واشتقاق البركة من قولهم: برك البعير إذا أناخ في موضع فلزمه. والبركة بمعنى الثبات المقترن بالنماء مشتقة من مبرك الإبل، أو من بروكه في ثباتها وكثرتها وتزايدها.

ولو علم أرباب الاستثمارات، وشركات المساهمات بهذا الاشتقاق، لابتكروا شعارا لهم بعيرًا، باركًا وسط سوق التداولات المالية.

الصاعدي، في بحثه الشائق، أورد معاني لكلمتَيْ؛ "ناقة" و"جمل"؛ متسائلًا بذكاء: إنْ كانت النساءُ يَعْرِفْن أنّ أصلَ لفظة الأناقة، عائدٌ للنَاقةِ! ذلك أنّ العلاقةَ بين الناقة والأناقة وثيقةٌ، مستندا على حديث ابن فارس عن الفعل «تنوّق»، فالعرب «يُشبِّهون الشيءَ بما يَسْتَحْسِنُونَه، وكأنّ تَنَوَّقَ مَقِيسٌ على اسم الناقةِ، وهي عندهم من أحسنِ أموالِهم». ولا ندري فربما اشتقّ العربُ الجمالَ من الجَمَلِ. فإذا ذُلِّلَ بالتربية جملٌ، وسهلَ قياده كالنّاقةِ، قيل: إنه استَنْوَقَ.

فهل يجرؤ صناع الموضة، أن يجعلوا ناقةً تسير على السجادة الحمراء في أسابيع الموضة؟

على كل حال... الحقُّ أنّ للإبلِ في ثقافة العربيِّ، وجودًا يُعادلُ الذَّهبَ صونًا له، والشَّرَفَ ذوْدًا عنه، والفكرةَ تأتي المَرْءَ فيعيشُ بها، بل صارَ كسبُها متاعًا يُحسَدُ عليه. مدح النابغةَ الذبيانيَّ، النعمانَ، فقال:

فَإِنَّكَ شَمسٌ وَالمُلوكُ كَواكِبٌ

إِذا طَلَعَتْ لَم يَبْدُ مِنهُنَّ كَوكَبُ

فدفع إليه النعمان مائةَ ناقةٍ من الإبل السُّودِ، فيها رِعَاؤها، وكان حسّان بن ثابت حاضرا، فقال: "ما حَسَدْتُ أحدًا حَسَدِي النّابغةَ، لِمَا رأيتُ من جزيلِ عطيتِه، وسَمِعْتُ من فَضْلِ شِعْره".

ولا يختلفُ حضورُ الإبلِ في ثقافةِ العربيِّ، عن حضورِها في خيالِه الشعريّ، فإذا هي فيه جَمَالاتٌ متنوّعةٌ وجَمّةً. إذْ يَرْسُمُها في قصائده، ويهندس حركتَها، بشغفِ العاشقِ، ثم يصف أدقّ تفاصيلها، إلى أقصى ما يمكن أن تُؤدّيه اللغةُ من دلالات، فيتحوّلُ الوصفُ حَرَكةٍ تسمع صوتَها، ضاربًا عرضَ الحائط بزعم السَرْدِيّين توقّف الحكايةِ حال ابتداء الوصفِ. تأملوا لوحة طرفة التي رسم فيها حركة ناقته:

جَنوحٌ دِفاقٌ عَنْدَلٌ ثُمَّ أُفْرِعَتْ

لها كَتِفاهَا في مُعالى مُصَعَّدِ

إن وصفَ الناقة في القصيدة لم يكتفِ بحالِ جسدها، فوصف تحوُّلاتِها، فتارةً تبدو سفينةً، وأخرى نجد فخذّيْها تحولّا بابي قصرٍ، وشعرَ ذَنَبها صار ريشَ نَسْرٍ أبيض، كما تتحول فجأة لقنطرةِ رُوميٍّ تُشاد بالقرميدِ، ثم تتالى تحوُّلاتها في تناسُبٍ مع حركةِ سيرِها حتى تبلغ مُنْتَهَى ما تكون عليه ناقةُ شاعرٍ مُجيدٍ مثل طرفة بن العبد: قوّةً وجمالاً ومغامرةً وجُرأةً.

بل كيفَ استطاعَ امرؤُ القيس، الْتِقاطَ صورة ناقته، تجري بِسرعةٍ تجعلُ الحصى يتطاير أمامها وخلفها؟

كَأَنَّ الحَصى مِن خَلفِها وَأَمامِها

إِذا نَجَلَتهُ رِجلُها خَذفُ أَعسَرَا

بل كيفَ تَأَتَّى لهذا الشاعر أن يتنبّه لاتساعِ منكِبيْ ناقتِه، وعَرَاضَةِ صدرِها وهو على ظهرِها؟

بَعيدَةُ بَينَ المَنكِبَيْنِ كَأَنَّما

تَرَى عِندَ مَجْرَى الضَفْرِ هِرًّا مُشَجَّرَا

وأُجيبُ عن السؤال: بإنّ الشاعرَ لم يكن على ظهر ناقتِه وهو يصفها، بل كان مَصْبوبًا فيها، بل لقد صُبَّا معًا، فامتزج بها وفيها، فإذا هو هي، وقد انبرت تدفع الحصى وتشقُّ الريحَ، وإذا هي هو، وقد تكفّل بتخليقِ أحوالِها، شاقًّا سِجافَ المَعانِي صَوبَ جَواهرِها، حيث ينعدمُ التمييزُ بين القائلِ والمقولِ عنه، فلا يَبقَ واصِفٌ وموصُوفٌ، ولا يبقى سوى الفَنِّ والشِعر!

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عَشِقَ العربي الإبلَ فاشتقَ مِنها لُغَتَهُ عَشِقَ العربي الإبلَ فاشتقَ مِنها لُغَتَهُ



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته
 العرب اليوم - أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 19:32 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما
 العرب اليوم - رانيا فريد شوقي تكشف سبب ابتعادها عن السينما

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات
 العرب اليوم - المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab