بقلم:تركي الدخيل
قال ابن قتيبة: «وأحسنُ مَن ابتدأ مرثيةً، أوسُ بن حجر، في قوله:
أيتها النفسُ أَجْملي جزعَا * إنّ الذي تكرهين قد وقعَا»
والبيت على عكس ما قد يبدو للناظر من الوهلة الأولى، لا يَنْهَى عن الحزن على فَقْدِ الأعزَّاء، ولو كان الأمر كذلك، لَمَا كتب الشاعر مرثيتَه أصلاً، إنما هو يَنْهَى عن الجزع.
وهو بيت من مرثية أوس بن حجر في فضالة بن كلدة، وليست هي المرثية الوحيدة له فيه، إذ رثاه بغير قصيدة.
والْجَزَعُ: نَقِيضُ الصَّبْرِ، وَهُوَ انْقِطَاعُ الْمُنَّةِ عَنْ حَمْلِ مَا نَزَلَ. (ابن فارس، مقاييس اللغة).
ونحو فكرة البيت، يقول المتنبي:
كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّعْبِ فِي الأَنْـ * ـفُسِ سَهْلٌ فِيهَا إِذَا هُو كَانَا
وهو بيتٌ يحثُّ على الصبر عند المصيبة، وفيه يُخبر المتنبي أن الأمورَ تصعب على المرء قبل حدوثها، فإذا حدثت سَهُلَتْ، وهو المعنى ذاته لبيت أوس بن حجر، ونحو ذلك قول الأعشى:
لا يُصْعِبُ الأمْرَ إلَّا رَيثَ يرْكَبهُ * وكُلُّ أَمْرٍ سِوى الفَحْشَاءِ يَأْتَمِرُ
قال الأصمعي: ولم أسمع قطّ ابتداء مرثية أحسن من ابتداء مرثية أوس:
أيتها النفس أجملي جزعا * إنّ الذي تكرهين قد وقعا
قال أبو عبد الله: ذلك لأنَّ أوْساً في مطلع قصيدته خلص إلى نهايتها، فعادة المواساة، ومنها المراثي، أن تبدأ بتمهيدات ومقدِّمات، يُتدرج منها إلى ألم الفقد ومصاب الفراق، لكن الشاعر، بدأ التمهيد بصلب الموضوع، والمقدمة باللب، فصارح نفسه بأن عليها أن تكف عن الجزع، فإن ما تكره قد وقع، وبوقوعه بات الخوف من تحققه لا أصل له، فما يقوم عليه هذا الخوف انتفى، وبالتالي يجب أن ينتفي الخوف تبعاً لانتفاء موجبه، ويتوقف الجزع على المصيبة.
كان ابن المقفع يقول:
«إذا نزل بك أمر مهم فانظر فإن كان لك فيه حيلة، فلا تعجز، وإن كان مما حيلة فيه فلا تجزع».
علَّق صلاح الدين الصفدي على قول ابن المقفع، قائلاً: «وما أحسن قوله: (تعجز، وتجزع)، وهذا الذي يسمى قلب البعض، وهو معدود عند أرباب البديع من الجناس، كقولك: رقيبٌ قريب».