طَبْعُ الخبيثِ والطيِّبِ في أبياتِ شِعْرِ أبي الطيِّبِ

طَبْعُ الخبيثِ والطيِّبِ في أبياتِ شِعْرِ أبي الطيِّبِ

طَبْعُ الخبيثِ والطيِّبِ في أبياتِ شِعْرِ أبي الطيِّبِ

 العرب اليوم -

طَبْعُ الخبيثِ والطيِّبِ في أبياتِ شِعْرِ أبي الطيِّبِ

بقلم:تركي الدخيل

وما زال حديثُ «العَلَّامَةِ، البَلِيغ، أَبي عَلِيٍّ الحَسَنِ بن رَشِيقٍ الشَّاعِرِ» (ت 456 هـ) صاحب «العمدة في محاسن الشعر» عن حُسن المطالع، يتردد صداه عندي، إذ قال: «حُسنُ الافتتاحِ داعِيَةُ الانشِراحِ، ومَطِيَّةُ النَّجَاحِ»، فأُذعن لمقولته بالانتقال إلى بيت لأبي الطيب، يقول:

يُرادُ مِنَ القَلبِ نِسيَانُكُم

وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلى النَّاقِلِ

وفيه يبيّن لنا المتنبي كيف أنَّ العاذِل لا يفتَأُ يُلِحُّ ويُكرِّر التقريع، مُخلصاً في أداء واجباته الوظيفية من لَومٍ وعتابٍ، ومن ذَلِك إصراره على دعوة المحب إلى ضرورة نسيان المحبوب. إنَّها رغبةٌ صريحةٌ وواضحة يُلِّح عليها أهلُ العذل، مطالبين القلبَ بإصرارٍ أن ينسى أهلَ محبته!

هذه مرافعة اللوَّام، فهل يمكن أن يستجيبَ أبو الطيب لدعواه، ومطالباتِه؟

وتأتي الإجابة مُؤَكِّدَة أنَّ السَّجايا، التي طُبِعَت على حُبِّكم، طبعاً يستعصي على النقل، وتَنَفسَت حضورَكم، لا تقبل تَحولَها، وتنقلَها من حالٍ إلى حال.

ولأَنَّ المانِعَ من الاستجابة لطلبِ العُذَّال بنسيان المحبوب، كان تمنُّعَ الطِّبَاعِ على التنقل من سلوك إلى آخر، فإنَّه جديرٌ بنا هنا التعرفُ على ماهية الطَّبع.

قال ابن منظور في «لسان العرب»: «الطبْعُ والطَّبِيعةُ: الخَلِيقةُ والسَّجيّةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا الإِنسان. والطِّباعُ: كالطَّبِيعةِ. قَالَ الأَزهري: وَيُجْمَعُ طَبْعُ الإِنسان طِباعاً، وَهُوَ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ طِباعِ الإِنسان، فِي مأْكَلِه ومَشْرَبِه، وسُهولةِ أَخلاقِه وحُزونَتِها، وعُسْرِها ويُسْرِها، وشدّتِه ورَخاوَتِه وبُخْلِه وسَخائه. قَالَ ابْنُ الأَعرابي: الطَّبْعُ: المِثالُ. يُقَالُ: اضْرِبْه عَلَى طَبْعِ هَذَا وَعَلَى غِرارِه وصيغَتِه وهِدْيَتِه [هَدْيَتِه] أَي عَلَى قَدرِه».

إنَّ الحضورَ الكثيف لتناوُلِ موضوع الطبع والطباع، في شعر المتنبي، يمكن اعتباره امتداداً لقدرتِه على سبر أغوارِ النفس البشرية، والحديث عنها باختصارٍ، وعمقٍ، وإتقانٍ. يقول:

وَكُلٌّ يَرى طُرقَ الشَّجاعَةِ وَالنَّدى

وَلَكِنَّ طَبعَ النَّفسِ لِلنَّفسِ قائِدُ

ويُؤكد المتنبي أنَّ الناسَ متفقون على شرف خصلتي الشجاعة والكرم، ولا يتنازعون في ذلك، لَكِّن مسلكَ كلِّ واحدٍ منهم لا يتَّفق مع رأيه في اعتبار الشجاعة والكرم من الأخلاق الشريفة، بل يكون الدافعُ والمُسَيِّرُ لأفعالهم، والقائدُ الذي يتقدَّمهم الخُطى، هو طَبع نفوسهم. لذا قالت العربُ في أمثالها: الطبعُ أغلب، والعادة غالبة.

ومنه قول أبي الطيب:

لَولَا المَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ

الجُودُ يُفْقِرُ والإِقْدَامُ قَتَّالُ

إنَّ الطَّبعَ هو الذي يجعل قوماً يمتنعون عن الجود والإقدام مخافةَ الفقر والموت، مفرطين بسيادتهم.

لا يمنع الناس هنا من السّيَادة، إلا المَشَقَّةُ، وهي التي تجعل قوماً مدفوعين بطباعهم يؤمنون بأنَّ سموَّ الكرم والشجاعة يستحقُّ العناءَ، ومكابدة الشقاء، كما قال ابن الفارض:

ومن يخطبِ الحسناءَ يسخو بمهرِها

وطَالِبُ شهدٍ لم تُخِفهُ اللواسِعُ

ولا يغيب الحديث عن الطبع عند أبي الطيب، حتى في شعرِ المديح، فيقول:

وَفي الحَربِ حَتّى لَو أَرادَ تَأَخُّراً

لَأَخَّرَهُ الطَّبعُ الكَريمُ إِلى القُدمِ

يُحدِّثنا المتنبي عن ممدوحِه وهو في ساحات الوغى، وميادينِ القتال، فحتَّى لو افترضنا جدلًا أنَّه يريد التأخُر، فإنَّ طبعَه الطيِّبَ وسجيتَه الحميدة يتغلبان على هذه الإرادة، فلا يجعلان تَأَخُرَهُ... إلّا إقداماً إلى الأمام.

ثم يُقَدِّم المتنبي نصيحةً عن النجاح، فحواها أنَّ أهم طريق يُسلك للنجاح هو أن يكونَ المرء على سجيته، ممتثلاً لطبعه، بلا مبالغة، فالتكلّف يؤدي بصاحبه إلى الوقوع في الزلات:

أَبلَغُ ما يُطلَبُ النَجاحُ بِهِ الـ

طَبعُ وَعِندَ التَعَمُّقِ الزَلَلُ

ويحكي لنا أبو الطيّب كيف يلجأ رديءُ الطبعِ إلى حيلٍ نفسيَّة لتبرير تخاذله، معتبراً تخلُّفَه عن القيام بواجبه من العقل، مُخادِعاً بذلك نَفسَه، لِلُؤْمٍ في طبعه، فيقول المتنبي:

يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ

وَتِلكَ خَدِيعَةُ الطَبعِ اللَئِيمِ

ومِثل خَبِيرٍ في طِبَاع النّاس، ينتقل أبو الطيب إلى إخبارنا بأنَّ طبعَ اللئيم وخستَه لا يجعلانه يكتفي بما هو فيه من صغارٍ، بل يدفعانه إلى إيذاء من لا يشاكله في الخِسَّة، ومن لا يسايره في النَّذالة، فيقول:

يُؤذي القَليلُ مِنَ اللِئامِ بِطَبعِهِ مَن لا يَقِلُّ كَما يَقِلُّ وَيَلؤُمُ

ناقلًا لنا طبيعة تعامل الكريم، مع ما يعتريه من ابتلاء، فيقول، مُختَتِماً، مصافحتكم بطِيبٍ:

إذا اسْتَقْبَلَتْ نَفْسُ الكَرِيمِ مُصابَها

بِخُبْثٍ ثَنَتْ فاسْتَدْبَرَتْهُ بِطيبِ

 

arabstoday

GMT 08:25 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

ألطاف ترومان

GMT 08:23 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

عن تسوية الملعب الدولي: قمة المستقبل

GMT 08:21 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الحقّ الفلسطيني وحياة القادة وموتهم!

GMT 08:19 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

نكسة لبنان الرقمية

GMT 08:17 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

وسواس العظمة يفسد الناس

GMT 08:15 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

عودة «النووي» الإيراني إلى الواجهة

GMT 08:13 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الحل الإقليمي للقضية الفلسطينية

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

صواريخ زيلينسكي وحافة الفوضى العالمية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

طَبْعُ الخبيثِ والطيِّبِ في أبياتِ شِعْرِ أبي الطيِّبِ طَبْعُ الخبيثِ والطيِّبِ في أبياتِ شِعْرِ أبي الطيِّبِ



ياسمين صبري بإطلالات أنيقة كررت فيها لمساتها الجمالية

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:37 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي
 العرب اليوم - إطلالات مختلفة تناسب قصيرات القامة من وحي منى زكي

GMT 12:06 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

إسرائيل تعترض طائرة مسيّرة "أُطلقت من العراق"
 العرب اليوم - إسرائيل تعترض طائرة مسيّرة "أُطلقت من العراق"

GMT 06:13 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري
 العرب اليوم - الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري

GMT 06:27 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

عقار تجريبي يساعد مرضى السرطان على استعادة الوزن

GMT 06:13 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

الضوء في الليل يزيد فرص الإصابة بالسكري

GMT 19:13 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

ريال مدريد يستغل قضايا مانشستر سيتي لخطف رودري

GMT 09:57 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

ماليزيا تسجل أول إصابة بجدري القرود خلال عام 2024

GMT 16:57 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

وفاة المخرج إيمان الصيرفي عن عمر ناهز 71 عاما

GMT 06:44 2024 الثلاثاء ,17 أيلول / سبتمبر

"رحلة 404" لـ منى زكي يمثّل مصر في الأوسكار

GMT 05:26 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

أنباء عن هجمات سيبرانية على مواقع إسرائيلية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab