بقلم - تركي الدخيل
الشغف... ما الذي يحوّل الأشياءَ العادية، الروتينية، التي تحدث بانتظامٍ مملٍ في العادة، إلى مهام تعتريك نشوة من قمةِ رأسكَ إلى أخمصِ قدميكَ قبل البدءِ بها... نشوة تكسوك بالفرحة والحماسة والنشاط؟
لا شيء غير الشغف.
إنه الشعور الذي يجعل زميلين يقومان بالتكليف نفسه، يفصل بين مقعديهما، في مكان عمل واحد، ما لا يزيد على متر واحد... الأول يضغط على أزرار كومبيوتره كأنه يعاقب لائحة لوحة المفاتيح، بينما الثاني يداعب الأزرار، كما تفعل عازفة البيانو وهي تؤدي سيمفونية تعشقها وتتقنها. الأول ينتظر الوقت الذي يمكن فيه أن يخرج من المكتب ليشرب سيجارة، حتى لو لم يكن مدخناً شرهاً. والثاني يتنازل عن وقت سيجارته من أجل المضي وألا يقطع متعة عمله، مع أن النيكوتين أقرب الأشياء لجسده ضرورة... شغفاً بمادته التي يحب.
فما السِّرُ الذي يفرّق بينهما؛ سوى هذا السحر المسمى شغفاً؛ بل ما الشغف؟
مع أي محاولة للعودة إلى معاجم اللغة العربية، وبالذات المتقدم منها، في محاولة لتعريف الشغف، فستجد أنَّ الكلمة بطبيعة الحال ليست بجديدة؛ قديمة وعتيقة، فقد وردت في القرآن الكريم، في قصة موقف زوجة عزيز مصرَ من النبي يوسف، إذْ أنه «قَدْ شَغَفَها حُبّاً». (انظر: «سورة يوسف»).
وفي الحب؛ لقد قسمت العرب المحبة إلى درجات، ضمنتها الشغف: فأولها الحب، فالهوى، ثم العلاقة، فالكلف، ثم الوجد، فالعشق، ثم الشغف، فالغرام، فالجوى، ثم الهُيام، كما يقول الكرمي في «قولٌ على قول».
وفي كتاب «العين» للخليل الفراهيدي، وهو كتاب به شغف مميز، ومنهج عبقري فريد، عدَّد، على عادته، المعاني المختلفة للمفردة الواحدة. واستجمع فقال عن الشغف: إنه غشاء القلب، واستشهد للشغف بقول النابغة:
وقد حالَ هَمٌّ دونَ ذلكَ شاغِلٌ
مكانَ الشَّغَافِ تَبتَغِيهِ الأصابِعُ
والكلمات، وإن تقدّم عهدُها، تأتي عليها في الأيام ظلالُ، تزوّدها بما يوحي بأنّ الكون وتمدده يتجمع في المفردات فيتمدد بها، وكذا كانت حال الشغف. فكيف رأى المتأخرون الشغف؟ في «معجم اللغة العربية المعاصرة»: «شغفه الحُب: فتنه وأصاب قلبه. وشغف به: أحبه وأولع به. مشغوف: مُولع، مغرم بشيء يهواه؛ مشغوف بالموسيقى. فلان مشغوف بحبيبته».
وعند «المعجم الوسيط»: شغفه الخبر، شغله وأقلقه، وفي حديث ابن عباس: «ما هذه الفتيا التي تشغفت الناس».
وباب اللغة واسع، فسيح، لا يغلق، كيف وقد رحل إمامها سيبويه، شغفاً بحرف، فقال: «أموت وفي النفس شيء من حتى»!
غير أن استخدام الشغف اليوم، وإن لم يختلف لدرجة كبرى عن التعريف القديم، إلا إنه بات غالباً، في عالم التحفيز، والإلهام، يعني الحب الدافع للتميز، والتألق والنجاح.
ومع ذلك، فتعريف قاموس «أكسفورد» ليس بعيداً عن تعريفات المعاجم العربية، فهو يعدّ أن الشغف: «شعورٌ قوي لدرجة قوية قصوى، بالكاد يمكن السيطرة عليه». والعجيب أن قاموس «كمبريدج» يضيف عنصراً إلى الشعور القوي جداً، فيجعل من أمثلة الشغف: الحب، والكراهية، والغضب، والمشاعر الأخرى. أي إنه لا يحكره على الحب فقط!
الأكيد، في حديثنا عن المعاني اللغوية، أن اقتراب العالم بعضه من بعض، ورواج لغة التحفيز والإلهام، أوشكا يجعلان المفهوم الأوحد للشغف، اليوم، هو الشغف المحفز، والدافع للنجاح، وضمن ذلك قالت المذيعة الأميركية الشهيرة، أوبرا وينفري، إن الشغف هو: «الطاقة التي تكسوك بالقوة، وتجعل الأمر الذي يثيرك، هو الأمر المسيطر على نشاطك، والذي يمنحك التركيز على هذا الأمر».
لا يمكن أن تحقق نجاحاً مبهراً في أي مهمة تقوم بها دون أن يكون هذا المسمى شغفاً، قد سلب لُبّك، وسيطر عليك؛ سيطرة أنت صاحب الإذن فيها، تمنحها، وابتسامتك تملأ ثغرك، على غرار المنتصرين، فور بلوغ خبر النصر المؤزر لهم.
الشغف هو الذي يصنع المحبة، دون أن تعلم، فتهطل عليك كمطر غيمة صيف، تحيلُ لهيب الحر إلى نسمات عليلة. أو إنه كرذاذ يلامس وجهك، وأنت تسير نحو إنجاز ما تحب، فتشعر أنّ العالم يشاركك الشغف والفرح بما تقوم به، ويلاطفك بهداياه.
لذا قلت لك، الشغف، في تقديري، هو زر الإلغاء الوحيد، المكتوب عليه (DELETE)، الذي يحول الروتين التقليدي الممل، إلى سلة المهملات، وربما يلقيه في حفرة الملغى من ذاكرتك، وذاكرة آلاتك التقنية.
لا يمكن مع الشغف أن تقومَ بأمر تعتقد أنه واجب يجب الانتهاء منه لترتاح من مسؤوليته، أو من أجل أن تزيح همه عن عاتقك. وستستمتع بالطريق، حتى قبل الوصول إلى الغاية.
في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول لبلال: «أرحنا بالصلاة يا بلال». فكان التعبير غاية الشغف، وعكس ذلك لسان حال البعض وكأنهم يقولون: ارحنا منها!
الشغف هو الذي يبث الحياة في الأشياء القديمة، فيحيلها متجددة، مشوقة، تشرق إثارة، وتلمع بالجاذبية، ولذلك قال هيغل: «ما من شيء عظيم تحقق في العالم دون شغف».
عندما ترى شخصاً شغوفاً بأمرٍ فهو يحدثك عنه كأنما يتلو عليك قصيدة عشق، ولا عجب في أن يقول الفيلسوف، الفلكي، غاليليو (1564 - 1642): «الشغف هو عبقرية العباقرة».
ذلك لأن الشغف يغمرهم بالحماسة، ويملؤهم بالبهجة، ويجعلهم إيجابيين يشعّون ضياء في دواخلهم، ومصدراً ينيرون لغيرهم دروب الإيجابية والفرح.
لا يمكن أن تنتهي جلستك مع الشغوف، دون أن تخرج وأنت تتساءل: ما الموضوع الذي يمكن أن أكون شغوفاً به، حتى أكون بهذا المستوى من السعادة، والإصرار، والحرص، والاستمتاع، والتعلق الجميل؟
الشغف يحول العقبات الكبرى، في نظر الشغوف، إلى مطبات صغيرة، يمكن أن يمر بها الجميع، دون أن تعطل سيره، أو تؤخر موعد إنجازه.
إنه لا يتحول إلى خيالي، بل إلى باحث حقيقي عن الحلول، لا جامع للعثرات والمصاعب.
ولذلك لما أنشد أبو الطيب:
إنَّ في الموج للغريقِ لَعُذراً
واضحاً أن يفوتَهُ تعدادُه
ما سمعنا بمن أحبَّ العطايا
فاشتهى أن يكونَ فيها فؤادُه
قال الأفليلي، وصف المتنبي، في حديث ابن العميد، وصفه بأنه: «كريم أحب العطايا وألفها، وأفرط في شدة الشغف بها، حتى اشتهى أن يكون قلبه وما تضمنه من سعة الإحاطة، واشتمل عليه من ثاقب الدراية، مما يهبه لمن يطرقه، ويتفضل به على من يقصده».
ولا شك في أن البيت الذي وُصف بـ«أسخى بيت قالته العرب»، كان فيه الشاعر يصف وصفاً مُصاباً لممتلئ بشغف العطاء بامتياز:
تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك معطيه الذي أنت سائله
فهو متحمس للعطاء، جذل به، يبلغ به غاية السعادة، مقدم عليه بإصرار وولع بالمنح، بكل محبة ووله، حتى أصبح من يطلبه يعطيه!
كيف يصبح الطالب معطياً، لولا سحر الشغف العجيب، الذي يشبه السحر، لكنه سحرٌ حلال؟!
ويعد أرسطو الشغف أحد الدوافع السبعة التي تحث البشر على أفعالهم.
يقول امرؤ القيس:
لمن طللٌ دارس آيُه
تنكره العين من جانب
أضرَّ به سالفُ الأحرُس
ويعرفه شغف الأنفس
«الشغف هو الذي يمنح حياتنا معنى، وهو ما يمنحنا نجاحاً فوق التوقعات والأحلام. ابحث عن أن تعمل ما أنت شغوف به».
ويعتبر، طبقاً للكاتب والملياردير الأميركي، هنري سامويلي، (ولد 1954) أن «الشغف هو الذي يمنح حياتنا معنى، وهو ما يمنحنا نجاحاً فوق التوقعات والأحلام. ابحث عن أن تعمل ما أنت شغوف به».
وفي الختام، في المشاعر ما تعلّق بالماضي، وصار سجينه، ومنها ما انطلق نحو المستقبل والجديد والمصير فصار أميره، والثاني ولا ينصلح حاله الأخير بغير الشغف.
يبقى سؤال يردده كثيرون: ماذا أفعل إذا لم أعرف ما هو شغفي؟
وتجيب، أوبرا وينفري، أيضاً: «أنت موجود في الدنيا لتكتشف هذا الشغف».
سيدي القارئ: ماذا تفعل؟
انتهى المقال... لنبحث عن شغفنا.