بقلم - تركي الدخيل
ليس من عادتي الحديث قبل الأبيات، ويسرني في هذه الحلقة أن أشكر القراء الكرام الذين غمروني بفضل تشجيعهم وتحفيزهم، وبفضل الله، ثم بفضل هذا الدعم الجميل، نصل اليوم في شرحنا إلى البيت المائة من أبيات شعر أبي الطيب المتنبي، في الوقت الذي أتمنى فيه أن أكون وفقت في انتقاء أبيات شاعر الدنيا الكبير، راجياً أن تكون هذه المنتقيات مؤكدة عنوان هذه الزاوية (من روائع أبي الطيب).
ويسرني أن أخبر القراء الكرام الذين تفضلوا خلال متابعتهم وتعليقهم على الحلقات السابقة، باقتراح إصدار هذه الحلقات بين دفتي كتاب، بعملي على إصدار الجزء الأول من هذه الروائع في كتاب، يضم أبيات المتنبي المائة الأولى، متمنياً أن أكون شرحتها بشكل لائق ومفيد.
لكم الشكر والتقدير والمحبة والاحترام.
تركي
(97) القَلْبُ أعْلَمُ يَا عَذُولُ بِدَائِهِ * وَأَحَقُّ مِنكَ بِجَفْنِهِ وبِمَائِهِ
هذا البيت مطلع قصيدة لأبي الطيب، بدأ أبياتها بشعر الغزل، الذي يسمونه النسيب. لقد تحدث الناس منذ حياة المتنبي عن شعره في الغزل، وأراد مبغضوه التبخيس من شعره كله، بقولهم: إن أضعف الأغراض التي تطرق لها شعر المتنبي، هو الغزل. واستندوا في دعواهم هذه، على ما يُعلم من طموح أبي الطيب، وحرصه البالغ على أن ينال الإمارة، معتبرين أن رغبته هذه وطموحه المالي والسياسي، قد ملآ نفسه فلم تتطلع نفسه للنساء، وبالتالي لم يكن غزل المتنبي في شعره، كمديحه أو مثل حضور الحكمة والفخر في أبياته، وإن كان قولهم هذا فيه بعض الصحة إجمالاً، إلا أنه لا يسلّم لهم بهذا القول في المُطلق، فالمنصف سيلحظ كيف اعتنى المتنبي بغزله، لا سيما في شعره بآخر حياته، وأبرز ملمح لهذه العناية، جعله أبيات الغزل في مطالع القصائد واستفتاحها.
وفي كثير من شعر أبي الطيب في الغزل ما تشرئب له الرقاب، وتشنف له الآذان، وهو من الشعر الذي يهزز السامع عند سماعه، وبعد سماعه. ومن ذلك بيت القصيد الذي يطرح فيه فكرته بصراحة وقوة ووضوح:
القَلْبُ أعْلَمُ يَا عَذُولُ بِدَائِهِ * وَأَحَقُّ مِنكَ بِجَفْنِهِ وبِمَائِهِ
مدافعاً عن القلب وهو سيد الحب بين الأعضاء، رافضاً تعدي العذال وهم من يضطلع بسخافة بلوم المحبين، ومنهم القلب.
يقول الشاعر: أيها العذال الذين يلومون أهل الحب بكل تفاهة، لا تتحدثوا بلسان القلب عما يعانيه من داء، وما يشتكيه من عناء.
قوله (بمائه): إشارة إلى دموعه، وبخاصة أنه ذكر ذلك بعد ذكر الجفن.
في البيت يُقرّر المتنبي مبدأً مهماً، وهو ألا أحد يفهم العشق بقدر فهم العاشق نفسه.
إن حَقَّ التعامل مع الدَّمْعِ ليس لأحد غير القلب، لأنَّهُ صاحبه والمتحكم به، والهاءُ في (مَائِهِ)، تَعُودُ على الجَفْنِ، ويُحتمل أنّه أراد بها أن تعودَ على القَلبِ، وإن كان هذا قصده، ففيه عُمقٌ وبُعد نظر.
(98) فَوَ مَنْ أُحِبُّ لَأَعْصِيَنَّكَ فِي الهَوَى * قَسَماً بِهِ وَبِحُسْنِهِ وَبَهَائِهِ
في هذا البيت يرفع المتنبي من قيمة محبوبه فيُقسم بِه معترفاً بمحبته، معتبراً هذه المحبة هي سبب القسم بالمحبوب، وقسمه على أن يعصيَ العذول، مخصصاً قسمه بأنه قسم بالهوى، وعاد ليؤكد القسم بقوله: قسماً بِهِ، وبحسنه، وبهائِهِ. وبذا يكون أقسم أربع مرات: أولها: فو من يحب. الثانية: قسماً به، أي بالمحبوب. الثالثة: قسمه بِحُسن المحبوب، أي بجماله. الرابعة: قسمه ببهاء المحبوب. والبهاء هو الجمال والحسن، والإشراق والنضارة، وبهما يملأ البهي مكانه في عيون الناس وقلوبهم ونفوسهم. قال ابن دريد: البهاء من النُبل. ويتضح مما سبق أنه ما حَسُنَ عند صاحب البهاء من المنظر والمخبر والسلوك والطباع.
(99) أَأُحِبُّهُ وأُحِبُّ فِيهِ مَلَامَةً * إِنَّ المَلامَةَ فِيهِ مِن أعْدَائِهِ
يتعجب في هذا البيت كيف يحب المحبوب ويحب لوم العذال على حبه للحبيب، ويقول: لأن هذه الملامة في حبه، تصدر من أعداء المحبوب الكارهين والحاسدين، ولذلك لن ألقي بالًا لهم ولن أعبأ بملامتهم.
يصل المتنبي هنا إلى جوهر فلسفته في الحب، فالعشق لا ينفصل عن اللوم، كما لا ينفصل الحبيب عن العذال! فملام العاشق هو سُنّة قديمة، كما أن المحبوب لا يسلم من الألسنة. الحب مبتلى، والمحبون في مرمى سهام النقد بلا مبرر!
ثم ينبري المتنبي لمواجهة الوشاة، إذ يقول لهم:
(100) عَجِبَ الوُشَاةُ مِنَ اللُّحَاةِ وَقَولِهِم * دَعْ مَا نَرَاكَ ضَعُفْتَ عَن إخْفَائِهِ
الوشاة: جمع واشٍ، وهو الذي يوزع الأحاديث الكاذبة المغرضة بين الناس، فيزيد في الأقوال ويثورها ويكذب في معظمها، لإفساد علاقات من ينقل لهم الحديث بالقائلين.
اللحاة: جمع لاحٍ، وهو المغلظ في زجره الحاد في قوله.
يقول: إن الوشاة على غلظتهم ودوام ممارستهم للوشاية المُفسدة بين الناس، عجبوا من اللحاة وقولهم لمن غلبه الوجد، وملكه الحب، دع ما نراه قد غلبك فما تدفعه، وضعفت عنه فما تستره.