بقلم - سلمان الدوسري
يوماً ما رد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على منتقديه «نحن الشعب فمن أنتم؟»، ووفقاً لهذه القاعدة الشعبوية الصرفة المكتملة الأركان، والتي ترتكز عليها جل مواقف وسياسات إردوغان وتصريحاته، خطط وهندس لتحويل متحف آيا صوفيا، الذي كان في الأساس كنيسة، إلى مسجد، متوقعاً أن يضرب من خلال هذه الخطوة عدة عصافير بحجر واحد؛ يرمم شعبيته التي تواجه الانحدار داخلياً، ويبتز أوروبا كما فعل في ملف اللاجئين، ويجد الملايين التي تصفق له من الجماهير الإسلامية المخدوعة في الخارج. واليوم وبعد أسبوعين من قراره المثير للجدل، ثبت أن عصافيره سقطت قبل أن تطير، وحجره ارتد عليه، ولم ينتج من قراره الشعبوي هذا إلا عدم المبالاة داخلياً ومزيد من السخط الخارجي، بل وغدا في مواجهة قراره الذي يستحق لقب أسوأ حملة علاقات عامة في عام 2020. ولو دفع خصومه بالداخل والخارج مئات الملايين من الدولارات لتنفيذ حملة تشويه صورته لما استطاعوا، كما فعل هو بقراره الشعبوي البائس هذا.
عادة يركز إردوغان، باعتباره رأس حربة الشعبويين في العالم، على عواطف الناس وغرائزهم في تعزيز شعبيته، تارة يتلاعب بالشعارات والقضايا الإنسانية لغايات سياسية، وتارة يثير مواضيع جدلية تتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية لتحوير أنظار مواطنيه والرأي العام العالمي حولها كقضايا جوهرية وأساسية تبعدهم عن الأزمات الحقيقية التي تواجهها بلاده. إردوغان وإنْ نجح في ذلك في بداياته وخدع الملايين من شعبه وكذلك من المناصرين له عن جهل خارج تركيا، فإنه اليوم يجد نفسه وحيداً من غير مناصرين حقيقيين يحمونه من شعبويته التي ارتدت عليه وباتت مكشوفة ومقرونة دائماً بالفوضى والغوغائية، وبدلاً من مواجهة أزمات بلاده، وما أكثرها، والاضطرابات السياسية التي تعصف بها، آثر القفز، كعادته، إلى إثارة قضية خاسرة مقدماً، عبر إثارة الجدل الديني بين المسيحيين والمسلمين. بالطبع فات إردوغان أن مناصريه قبل غيرهم باتوا يفهمون جيداً ألاعيبه السياسية ومساعيه لدغدغة المشاعر الدينية العاطفية عند كل موقف يتخذه أو يروّج له، كيف لا وهو المؤمن بأنه يمثل إرادة الناس الحقيقية، وأن الله يقف بجانبه في معركته ضد المؤامرات التي تستهدفه، باعتباره مدافعاً شرساً ووحيداً عن الإسلام. يقول الفيلسوف الفرنسي بيير أندريه تاغييف إن «الديماغوجي يهدف إلى تضليل الآخرين بينما الشعبوي يبدأ بتضليل نفسه»، وهو ما ينطبق تفصيلاً على إردوغان الذي بدأ وانتهى بتضليل نفسه.
إردوغان الذي قال في خطاب جماهيري بعد قرار اعتراف الإدارة الأميركية بالقدس عاصمة لإسرائيل «إذا فقدنا القدس فلن نتمكّن من حماية المدينة ومكة، وإذا سقطت مكة فسنخسر الكعبة»، هو نفسه الذي يمد يده واقتصاده وسلاحه إلى الإسرائيليين سراً وعلانية، لكنه يستخدم اللغة الدينية نفسها التي عفّى عليها الزمن، وهو يفعل الأمر ذاته في قضية آيا صوفيا، حتى تلك الدفعة المؤقتة من الشعبية التي انتظرها، لم تأته ولم تثمر نفعاً، كل ما حدث أنه استمر في تقويض صورة تركيا على الساحة الدولية، وبدلاً من كونها مجتمعاً منفتحاً ذا أغلبية مسلمة يعيش في سلام مع تراثه المسيحي، تحولت إلى بلد إقصائي يخاصم حتى مواطنيه من أجل تعزيز المكاسب السياسية، وحتى هذه فشل فيها فشلاً ذريعاً بعد أن أخطأ في توقعاته بأنها ستنتج عاصفة من الشعبوية الداخلية والخارجية، وما أكثر حسابات إردوغان الخاطئة.