بقلم زاهي حواس
قد يتعجب البعض من اهتمام الأثريين بدراسات مثل نظم الري وطرق البناء أو حتى تفاصيل كيفية تنفيذ الصناعات والحرف القديمة بمكان ما أو مجتمع حضاري قديم! والحقيقة أن مثل تلك الدراسات وغيرها هي من صميم عمل الأثري ومن دونها لا يستطيع رسم صورة كاملة أو حتى شبه كاملة لمجتمع ما من المجتمعات القديمة. ومن أمتع الدراسات الأثرية في ظني هي الدراسات المقارنة بين الصناعات والتكنولوجيا بين المجتمعات القديمة بعضها البعض مع الأخذ في الاعتبار البُعد المكاني والموقع الجغرافي ومكونات البيئة في كل مجتمع من المجتمعات القديمة.
وقد يعجب القارئ كذلك من استعمالنا لكلمة تكنولوجيا عند الحديث عن مجتمعات عاشت منذ آلاف السنين، بل إنه قد لا يصدق إذا قلنا إن مجتمعات ضاربة في القدم كانت تمتلك من العلوم والمعارف ما لم نستطع نحن الأثريين في وقتنا الحاضر سبر أغوارها وكشف أسرارها. ونحن هنا لا نتحدث مثلاً عن كيفية بناء الفراعنة للأهرامات، ولكن عن أمثلة أخرى أبسط بكثير، ومنها موضوع مقالنا اليوم عن نظم الري القديمة بدومة الجندل في المملكة العربية السعودية.
إن كل ما نعرفه إلى الآن عن نظم الري القديمة بدومة الجندل من خلال دراسات الاكتشافات التي قام بها فريق سعودي دولي، هو أنها كانت تتبع نظاماً هندسياً دقيقاً في توزيع الآبار والقنوات المائية التي تمر خلالها المياه تحت الأرض والتي تم بناؤها باحترافية شديدة، ونحن لا نتحدث عن قنوات مائية صغيرة ولكن قنوات ضخمة يستطيع الرجل البالغ الوقوف داخلها. وإلى جانب النظام الهندسي المعقد للقنوات المائية بدومة الجندل فإن نظام ري النخيل والمحاصيل كان يتبع نظاماً حسابياً دقيقاً يراعي وصول المياه اللازمة للري في مواقيتها وبدقة شديدة، وكذلك بالكميات المطلوبة وفق نظام حسابي دقيق. وإلى الآن لم تتم دراسة نظم الري القديمة بدومة الجندل بشكل كامل وربما تخرج في السنوات القادمة مؤلفات ودراسات علمية تسلط مزيداً من الضوء على هذا الموضوع المهم.
كتب المستشرق الإنجليزي والين الذي زار الواحة عام 1845 عن آبار المياه بالواحة وقنوات توزيع المياه، وكان مما كتبه أن الواحة بها كثير من الآبار التي يصل عددها إلى الألف بئر والتي يختلف قطرها من ثلاثة إلى ستة أمتار وأن معظمها مستدير وإن كان تخطيط بعضها مربعاً أو مستطيلاً. وقد زودت كل بئر بدرج حجري جانبي يسمح بالنزول إلى البئر وإجراء عمليات الصيانة والتطهير اللازمة من وقت لآخر. وقد ذكر والين غنى الواحة ببساتينها وأن كل بستان يعتمد على بئر مياه واحدة أو أكثر. وكانت للآبار أسماء تطلق عليها يغلب عليها أسماء أصحابها أو من قاموا بحفرها، وكذلك صفات تطلق على الآبار. وفي دومة الجندل حيث توجد المياه الجوفية على مسافات قريبة من سطح الأرض، لذا كانت أعماق الآبار لا تتعدى ثمانية عشر متراً أي عشر باعات. أما عن نظام رفع المياه من الآبار فكل ما نعرفه عنه هو استخدام الحبال والإبل في الجر وسحب المياه من الآبار ورفعها إلى القنوات والمجاري المائية المبطنة بالحجارة والتي تجري أسفل سطح الأرض.
وتختلف آبار دومة الجندل عن تلك التي عثر عليها بمدائن صالح وحتى عن الآبار القريبة من دومة الجندل في منطقة الجوف سواء في طرزها المعمارية وأعماقها ونظام الدرج الجانبي أو الداخلي للبئر.