بقلم : زاهي حواس
مما لا شك فيه أن صيف عام ١٨٧١م سيظل محفورا فى ذاكرة التاريخ الإنسانى، ففيه وقعت أغرب حادثة من الممكن أن يتصورها بشر! إن محاولة راعى أغنام إنقاذ شاة صغيرة لم يكن يتعدى ثمنها بضعة قروش فى ذلك التاريخ قادته إلى أعظم كشف أثرى فى تاريخ البشرية!، نتحدث عن الكشف عن خبيئة المومياوات الملكية بالدير البحرى، والذى تم تصنيفه بأنه الكشف الذى لا يقدر بثمن، حيث إن ذهب العالم كله لا يساوى أى شىء بالنسبة لقيمة ما تم العثور عليه فى تلك الخبيئة، والتى سنقص حكايتها من البداية إلى النهاية فى عدة مقالات نبدأها بمقال اليوم. ظن محمد عبدالرسول وأخواه عبدالرسول وسليمان أن الحظ قد طرق باب العائلة، وأنهم سوف يصيرون هم وأولادهم وأحفادهم أغنى أغنياء ليس قرية القرنة وحدها، بل مصر كلها. لكن الحقيقة التى لم يكن يدركها محمد وأخواه أن لعنة مريرة قد حلت عليهم وعلى أسرتهم، وأن تلك اللعنة ستظل تطارد أحفادهم من بعدهم. لقد قادتهم الصدفة إلى الكشف عن كنز عظيم لا مثيل له! كنز مكدس بتوابيت ومومياوات ملكية بلفائفها وكنوزها التى اصطحبتها معها إلى مرقدها الأبدى.
وتبدأ القصة فى القرنة، تلك القرية الصغيرة غرب النيل فى الأقصر، والتى تناثرت مساكنها فوق مقابر الفراعنة من النبلاء والموظفين ومن مختلف العصور القديمة. كان أحد أفراد عائلة عبدالرسول يرعى قطيعا من الأغنام بالقرب من معبد الملكة حتشبسوت بالدير البحرى، وتصادف أن شردت شاة صغيرة أعلى الجبل، فتبعها راعى القطيع ليستردها. دقائق من البحث عن الشاة الصغيرة بدأ بعدها القلق يتسرب إلى قلب الراعى، فالمكان موحش وديابة «الجمع العامى لكلمة ذئب» الجبل لا يؤمن جانبها. سمع الراعى صوت الشاة يأتيه ضعيفا كما لو كان يأتى من أسفل الأرض!، وبدأ يتفحص المكان حتى وجد فتحة بين الصخور سقطت فيها الشاة. وما هى سوى لحظات حتى كان الراعى قد انزلق إلى البئر العميقة، وتكون هذه هى لحظة الكشف عن كنوز خبيئة المومياوات الملكية، أعظم كنز أثرى يعثر به على توابيت ومومياوات لملوك الفراعنة وملكاتهم ويقدر عددهم بحوالى أربعين ملكا.
والخبيئة عبارة عن بئر يصل عمقها إلى حوالى ثلاثين مترا تقريبا، ولفظة خبيئة فى علم الآثار تعنى بئرا أو حفرة، أو حجرة مخفية، مخبأ بداخله كنوز من تماثيل ومومياوات وحلى وعتاد جنائزى. وفى مصر تم العثور على عشرات الخبايا والتى لا يعرف كثير من الناس عنها شيئا، وقريبا سيصدر لى كتاب بعنوان «السر فى الخبيئة»، يحكى قصة كل خبيئة وكيف تم اكتشافها، وأهم ما تم العثور عليه من آثار.
لقد قام با نجم الثانى (وينطق أيضا بينجم)، الكاهن الأكبر للإله أمون سيد الكرنك، والحاكم الفعلى للصعيد كله خلال الأسرة الحادية والعشرين، بإنقاذ المومياوات والمتعلقات الجنائزية لبعض ملوك الدولة الحديثة التى أودعت بمقابرهم بوادى الملوك بعد أن تعرضت تلك المقابر لعمليات سرقة منظمة منذ نهاية عصر الرعامسة وحتى الأسرة الحادية والعشرين. قام الكهنة بناء على أوامر كبيرهم بانجم (٩٩٠ – ٩٦٩ قبل الميلاد) بوضع خطة محكمة وسرية للغاية لنقل مومياوات الفراعنة العظام وكنوزهم سرا من مقابرهم داخل توابيت منها الجديد ومنها القديم، ثم دفنهم بأماكن بعيدة عن أعين اللصوص، أحدها بالدير البحرى، والآخر بمقبرة الملك أمنحتب الثانى وهى الحبيئة التى كشفها الأثرى الفرنسى «فيكتور لوريه» عام ١٨٩٨م.
كان لدى أفراد أسرة عبدالرسول قسط كبير من الدراية بالآثار، مما مكنهم أن يميزوا بين الملكى وغير الملكى منها، فحين رأوا الشارات الملكية كالكوبرا واللحية المستعارة وغطاء الرأس المعروف بالنمس على التوابيت أدركوا أهمية هذا الكنز الملكى، إلا أن ضخامة التوابيت ووجودها فى قاع بئر عميقة حال دون استخراجها، ومن ثم عدم انتفاع أفراد هذه الأسرة بالأموال التى كانوا سيحصلون عليها فى حالة بيعها لتجار الآثار. فإن هم استأجروا من يعمل لديهم فى استخراج هذه التوابيت لافتضح أمرهم أمام أقرانهم بقرية القرنة ومسؤولى الآثار، بل قد يصل الأمر إلى مدير المديرية آنذاك. ولخشيتهم من افتضاح أمرهم اقتصر دخولهم الخبيئة على ثلاث مرات فقط خلال عشر سنوات قاموا خلالها بنزع أكفان بعض المومياوات، وسرقوا تماثيل من الاوشابتى وأوانى كانوبية كانت تحوى بداخلها أحشاء الملوك وتماثيل من الخشب وأوراق البردى.
أما توقيت الدخول فكان غريبا للغاية!، كان لابد أن تكون ليلة شتاء قارس غير مقمرة، وبعد منتصف الليل، وأن تكون الأمطار شديدة!، فى مثل هذا التوقيت والظروف وطبيعة الجبل من المستحيل أن تجد أى كائن يتجول فى العراء. ومع ذلك كانوا يراقبون طرقات القرية والمدقات الجبلية حتى يؤمنوا عمليات نقل الكنوز من الخبيئة إلى منزل العائلة ودفنه لحين التصرف فيه بالبيع. استطاعوا خلال السنوات العشر التى حافظوا خلالها على السر أن يبيعوا الآثار المستخرجة من الخبيئة إلى القناصل الذين كانوا يتاجرون فى العاديات لصالح بلادهم، وأيضا إلى تجار الآثار والأجانب الذين كانوا يزورون الأقصر.
وفى عام ١٨٧٤م شاهد المسيو جاستون ماسبيرو الفرنسى - الذى عمل بعد ذلك بسنوات كأول مدير للمتحف المصرى بعد إنشائه فى ميدان التحرير الإسماعيلية سابقا- بعضا من هذه الآثار فى أسواق العاديات بأوروبا، وتأكد أن هناك آثارا ملكية تخرج من الأقصر. وأنه بدأت الآثار والبرديات تتسرب وتباع إلى المتاحف وتأكد للمسؤولين عن الآثار أن لصوص القرنة عثروا على مقبرة ملكية.
وفى عام ١٨٨٠م سافر ماسبيرو إلى الأقصر راجيا أن يصل إلى ما قد يعينه على كشف ذلك السر الدفين. وتوصل العالم الفرنسى إلى أن مصطفى أغا عياد كان قنصلا لعدد من الدول الأوروبية وروميا، هو المصدر الأساسى للآثار الملكية التى تخرج من البر الغربى، وأنه على صلة وثيقة بأفراد عائلة عبدالرسول. فتقدم ماسبيرو ببلاغ رسمى إلى الشرطة ضد عبدالرسول أحمد الذى قُبض عليه بالفعل وقامت الشرطة وقتها باستعمال كل الطرق، سواء باللين أو بالعنف كى يعترف بمكان المقبرة الملكية التى يسرقون منها؟ لكن عبدالرسول كان على استعداد أن يفقد حياته دون إفشاء سر الخبيئة! ولم تجد الشرطة أمامها سوى أن تطلق سراحه. لكن بدأ الخلاف يدب بين أفراد أسرة عبدالرسول حين طلب عبدالرسول أحمد أن يحصل على تعويض نظير المدة التى قضاها داخل السجن والعذاب الذى لاقاه وكتمانه لسر الأسرة، وهدد بأن يفشى السر إن لم يحصل على ما أراده. فى حين كان محمد عبدالرسول يرى أنه من كان يتولى أمور العائلة كلها ويصرف عليها عندما كان أخوه فى السجن، وكان يرى أنه أحق بالنصيب الأكبر!، هكذا لعب الطمع والعناد الدور الأكبر فى إفشاء سر الكنز بعدما تسرب الخوف إلى كل أفراد الأسرة وارتابوا من بعضهم البعض، حتى قام الأخ الأكبر محمد عبدالرسول بالتوجه إلى مديرية الشرطة يوم ٢٥ يونيو ١٨٨١. وكان مدير المديرية فى ذلك الوقت هو داود باشا الذى أرسل إشارة عاجلة إلى وزارة الداخلية بالكشف عن سر الكنز بالأقصر، فتقوم نظارة الداخلية بدورها بإبلاغ الخديو توفيق الذى كان يحكم مصر فى ذلك الوقت. أما ما حدث بعد ذلك فنتابعه فى المقال القادم بإذن الله تعالى.