بقلم: دكتور زاهي حواس
كل عام وأنتم بخير ورمضان كريم علينا جميعًا بعيدًا عن شر كل حاقد أو حاسد من أصدقاء ست إله الشر عند الفراعنة؛ هؤلاء الذين يحاولون دائمًا تحويل حياتنا إلى نكد وجحيم؛ يحاربون كل نجاح ويصنعون من أنفسهم المريضة قيمة، أبطال من ورق بل إن الورق له قيمة دونهم! ونحمد الله أن هؤلاء أغلق عليهم فى رمضان مثلما أغلق على الشياطين.
وبعيدا عن هؤلاء هناك شخصيات جد رائعة كان لى معهم ذكريات جميلة ولذلك فأنا أفتقدهم فى كل وقت وزمان خاصة فى شهر رمضان المعظم.
عمر الشريف
كان عمر الشريف يصوم فى شهر رمضان ونتقابل على الإفطار. وكان له رحمه الله مواقف كثيرة بينه وبين ربنا سبحانه وتعالى! حدثنى عمر عن تلك الليلة العصيبة التى مر بها فى حياته، ففى منتصف الليل هاجمته أزمة قلبية كادت أن تودى بحياته. وجد عمر نفسه يرفع يديه وينظر إلى السماء ويعاهد ربه بأنه إذا نجا من هذه الأزمة فسوف يقلع وإلى الأبد عن التدخين. وبالفعل بر عمر بعهده ولم يكره فى حياته بعد ذلك سوى رائحة السجائر. وعندما دعاه الفنان الدكتور أشرف زكى لكى يلتقى بطلاب أكاديمية الفنون وكان عمر فى ذلك الوقت بدأ يعانى من مرض الزهايمر. ورغم ذلك استطاع عمر أن يلتقى بالطلبة ويتحدث معهم. وفى طريق العودة كان عمر يجلس إلى جوارى وأحس بضربات قلبه تتسارع فما كان منه طول الطريق سوى أن يردد «يا رب». كان فنان يحيا بقلب طفل لا يحمل كرهًا أو حقدًا لأحد. يحتد فى بعض الأحيان من تصرفات البشر لكنه يعود ويعتذر لمن احتد عليه. ظل متمسكًا بجنسيته المصرية ولم يحاول أن يحصل على أى جنسية أخرى. وأذكر أننى ذهبت معه إلى السجل المدنى لكى يقوم باستخراج بطاقة الرقم القومى، وعندما تسلمها كان سعيدًا للغاية. رحم الله هذا الإنسان الرائع.
أحمد رجب
أحمد رجب هو أعز صديق مر بحياتى كنا نتحدث عبر الهاتف يوميًا وقد حدث أن انقطعت عن الاتصال به لمدة أسبوع لسفرى خارج البلاد ولم أكن قد أخبرته فخاصمنى! وحاولت أن أكلمه مرات ولم يرد! فذهبت إليه فى منزله وفتح لى الباب خادمه، وقال لى الأستاذ لن يقابلك! فقلت له أخبره أننى لن أمشى حتى يقابلنى. هنا خرج لى مبتسمًا قائلًا: «ده مجرد إنذار علشان ما تعملش كده تانى». كنا نتقابل ومعنا المخرجة المبدعة ساندرا نشأت، التى كان يعتبرها مثل ابنته. كتب عنى أحمد رجب كثيرًا فى نص كلمة وكانت كل كلمة يكتبها تختصر مقالًا كاملًا. كان يعيش بقلب يملؤه الحب للحياة وللناس رغم انطوائه. ولن أنسى أنه وقف إلى جوارى فى وقت الشدة عندما انهالت على الكلاب المسعورة. ومدرسة أحمد رجب تعتبر من المدارس الصحفية التى لن تتكرر. ولا أعتقد أن هناك كاتب فى عالمنا يستطيع أن يحاكى أحمد رجب فى أسلوبه وعبقريته.. رحم الله هذا الكاتب المبدع.
أنيس منصور
كان من المبدعين فى حديثه يضيف نكهة إلى أى نقاش. وكان صالونه الثقافى من أجمل وأرقى الصالونات الثقافية. سافرت مع أنيس منصور إلى العديد من البلدان حول العالم. وكان أول ما يفعله هو شراء كل ما يشاهده لزوجته السيدة رجاء، التى كان يعمل لها ألف حساب فعندما أطلب منه أن يسافر معى يقول لى خذ الإذن أولًا من رجاء! كنا نجتمع دائمًا مع أحمد رجب وعمر الشريف ومفيد فوزى. وأعتبر أنه من أكبر أخطائى أننى لم أسجل هذه الحوارات الممتعة. ودائمًا ما كان عمر الشريف يصر على دفع الحساب. وكان أنيس معتاد فى رمضان على إقامة مائدة إفطار كبيرة يدعو إليها كل أصدقائه وأذكر أنه بسبب أنيس منصور وعن دون قصد منه تقدمت باستقالتى من العمل فى الآثار فقد حدث أن قمنا بكشف مقابر العمال بناة الأهرام. وداخل أحد المقابر عثرنا على مجموعة تماثيل رائعة وكانت السياحة فى ذلك الوقت تعانى من ضربات الإرهاب واتفق معى الوزير فاروق حسنى على أن يقوم الرئيس حسنى مبارك بالحضور إلى الموقع والإعلان عن الكشف وعمل دعاية ضخمة نواجه بها ضربات الإرهاب. وحدثت أنيس عن الكشف وطلبت منه أن يحتفظ به سرًا لحين الإعلان عنه. وعاهدنى على ذلك، لكن تصادف أن نشرت الصحف خبر أننى سألقى محاضرة عن الاكتشافات الأثرية الجديدة فظن أنيس أننا أعلنا عن الكشف وبدأ يكتب عنه فى عموده اليومى. أثارت كتاباته غيرة رئيس الآثار، وفى النهاية لم أجد سوى تقديم استقالتى. رحم الله أنيس منصور.
عباس حواس
أبى ومعلمى الأول الذى توفى وأنا فى الثالثة عشر. كان صاحب حضور عظيم، يملك الأرض الزراعية ويشرف على المزارعين. وكانت نصيحته لى ألا أضع إصبعى تحت ضرس أحد، بمعنى ألا تأخذ أى شىء لا يخصك من أحد ولو حتى هدية ولا تطلب معروفًا من أحد حتى لا يكون إصبعك تحت ضرسه. ولأننى ابنه الأكبر كنت أسافر معه إلى كل مكان وقد اختار لى اسمى لأنه كان له صديق فى الجيش من سوريا اسمه زاهى. وفى رمضان كان يرسلنى إلى كتاب الشيخ يونس لحفظ القرآن الكريم، ويصطحبنى معه إلى المضيفة التى يجتمع بها كبار البلدة للحديث فى كل شىء من السياسة وحتى الزراعة. وعلى الرغم من مرور كل هذه العقود على وفاة أبى رحمه الله إلا أن صورته دائمًا أمامى وأفتقده كثيرًا فى رمضان.
الأسطى عمران
سائق السيارة الذى عمل معى وأنا مفتشًا للآثار ثم مديرًا لمنطقة الأهرامات. كان الأسطى عمران يعمل معى ليل نهار؛ حيث كنت أحضر من منزلى فى منتصف الليل للمرور على المواقع الأثرية والتفتيش على الغفراء والحراس للتأكد من وجودهم. وكنا نذهب إلى الواحات البحرية ونعود فى نفس اليوم. ولم أر الأسطى عمران فى يوم من الأيام متذمرًا من أحد. ولم يطلب فى حياته إجازة، لذلك فقد ترك هذا الرجل العظيم سيرة عطرة لأولاده. لأننا جميعًا نحبه ونعلم إخلاصه وتفانيه فى عمله، ولم أسمعه فى يوم يشتكى من العمل أو يشكو أحد. وفى رمضان كنت أعيش فى استراحة بجوار الهرم، وكان الأسطى عمران يأتى للإفطار معى فى أيام متفرقة حتى لا أفطر بمفردى. إن اسم هذا الرجل مسطر فى عالم الآثار بحروف من نور رغم عمله البسيط لكن إخلاصه وحبه لعمله جعل منه إنسان عظيم القيمة أفتقده فى كل رمضان.
رمضان البدري
جاء رمضان للعمل معى فى منطقة الهرم وهو شاب صغير السن تخرج حديثًا فى كلية الآثار. وقد كنت فى ذلك الوقت أقوم بالتدريس فى بعض المعاهد السياحية. وكنت أطلب منه أن يأخذ الطلاب فى رحلات ميدانية إلى المواقع الأثرية. واكتشفت أن كل الطلاب يعشقونه لأدبه وأخلاقه وعلمه. وكان يعمل معى فى الحفائر وعاش معى موسما كاملا فى الواحات البحرية. وبعد ذلك وجدت أن رمضان يجب أن يسافر إلى الخارج ليكمل دراساته العليا، لذلك فعلت كل ما فى وسعى لكى أحصل له على منحة فى جامعة براون الأمريكية. وحصل رمضان بدرى حسين رحمه الله على درجة الدكتوراه. وجاء للعمل معى فى الآثار. وعندما تم تعيينى وزيرًا اخترته لكى يكون الرجل الثانى فى الوزارة رغم صغر سنه. وبعد أن ترك الوزارة. استطاع أن يحصل على وظيفة أستاذ بجامعة توبينجن بألمانيا. وترأس بعثتها للحفائر فى سقارة وحقق اكتشافات مهمة جدًا. وعندما انقطع عن الحديث معى لمدة من الزمن سألت عنه فعرفت أنه وقع فريسة للمرض العضال الذى حاول أن يخفيه عنى. بعدها تركنا ورحل إلى جوار ربه لكننا سنظل نذكره دوما ونفتقده فى كل وقت وزمان.