بقلم -زاهي حواس
فى مساء ٩ مارس من عام ١٨٩٨ دخل الأثرى الفرنسى فيكتور لوريه مقبرة الملك أمنحتب الثانى، لأول مرة، بعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتحديدًا بعدما تم إغلاق المقبرة بواسطة كهنة الأسرة ٢١ الذين، ولسبب لا نعرفه إلى الآن، قاموا باختيارها لتكون خبيئة يخفون ويحفظون بها ١٣ مومياء لفراعنة مصر العظام ولملكات وأمراء. كان إلى جانب فيكتور لوريه رئيس العمال، ومفتش آثار القرنة، حسان أفندى حسنى، وقد تم إعطاء المقبرة المكتشفة رقم ٣٥ (KV 35). هذه المقبرة تُعتبر بحق ثالث أغنى مقبرة ملكية بعد مقبرتى توت عنخ آمون، ويويا وتويا، حيث عثر فيكتور لوريه بداخل المقبرة على أكثر من ٢٠٠٠ (ألفين) قطعة أثرية، للأسف معظمها مُحطَّم عن طريق لصوص المقابر، الذين نجحوا فى الوصول إلى المقبرة فى العصور القديمة، وقبل أن يستخدمها الكهنة كخبيئة كما سبق أن ذكرنا.
بعد أن هبط «لوريه» الممر الهابط بعد مدخل المقبرة، عبر البئر، ثم مر بقاعة تُفضى إلى حجرة غير منقوشة بها عمودان فى المنتصف ودرج إلى اليسار يسمح بالدخول إلى حجرة الدفن، التى غُطى سقفها الذى يقوم على ستة أعمدة بنجوم زرقاء بديعة الرسم، وزُخرفت الجدران بنصوص ومناظر «الإيمى دوات، ما هو موجود بالعالم الآخر»، وهى آية فى الجمال والإبداع. وقد زُينت واجهات الأعمدة بمناظر تصور الملك وعلاقاته بالآلهة والإلهات. وعن طريق درج بين آخر عمودين يتم النزول إلى أرضية حجرة الدفن، حيث يوجد تابوت الملك أمنحتب الثانى، المنحوت من حجر الكوارتز، وهو أول تابوت ملكى يتم العثور عليه بوادى الملوك وبداخله مومياء صاحبه.
وحول حجرة الدفن، توجد أربع حجرات جانبية تم استخدام حجرتين منها كخبايا لحفظ مومياوات منقولة من مقابرها الأصلية، بل من توابيتها التى نُهبت إما عن طريق اللصوص أو الكهنة، الذين قاموا بنقل المومياوات من مقابرها الى مقبرة الملك أمنحتب الثانى. فى الحجرة الأولى عثر «لوريه» على ثلاث مومياوات ترقد على الأرض، وبدون توابيت تحميها. المومياء الأولى تمت تسميتها مومياء السيدة الكبيرة أو السيدة العجوز، وأهم ما يميزها شعرها الطويل المضفر فى ضفائر بعناية فائقة، أما المومياء الثانية فهى لسيدة شابة تسمى مومياء السيدة الشابة. والمومياء الثالثة لشاب يرقد بين مومياء السيدة العجوز ومومياء السيدة الشابة. وكانت المفاجأة السارة فى انتظار «لوريه» فى الحجرة الثانية، حيث عثر «لوريه» على مومياوات كل من الملك تحتمس الرابع والملك أمنحتب الثالث والملك سيتى الثانى والملك مرنبتاح والملك سى بتاح والملك رمسيس الرابع والملك رمسيس الخامس والملك رمسيس السادس ومومياء امرأة مجهولة.
بعد أن أتَمَّ «لوريه» أعمال الكشف والدراسة وتسجيل القطع الأثرية والمومياوات والتوابيت التى عثر عليها بالمقبرة، قام بشحن المومياوات والآثار، فيما عدا مومياء الملك أمنحتب الثانى، على ظهر مركب مبحر من الأقصر إلى القاهرة. كانت وجهة نظر فيكتور لوريه أن وجود هذه المومياوات والآثار بالمقبرة يمثل خطرًا كبيرًا عليها، ولكن للأسف استطاع علماء الآثار الأجانب- الذين أزعجتهم النجاحات المتتالية لفيكتور لوريه واكتشافاته المذهلة وخوفهم من أن يعلو نجمه أكثر من ذلك- استصدار فتوى من الأزهر الشريف بتحريم نقل المومياوات من قبورها على أساس أن ذلك من باب انتهاك حرمة الموتى والقبور!. والغريب أنه كان من بين هؤلاء عالِم المصريات، فلندرز بترى، المعروف بـ«أبوالمصريات». ووصلت الأوامر إلى فيكتور لوريه بأن يعود بالمومياوات إلى الأقصر ويدفنها مرة أخرى بمقبرة أمنحتب الثانى.
تمر السنون، ويرحل فيكتور لوريه عن مصر، وتتم سرقة المومياء التى كانت ترقد داخل قارب، ويتدهور حال المومياوات، فيقوم هيوارد كارتر بنقلها إلى القاهرة، وبعد ذلك يتم نقل مومياء الملك أمنحتب الثانى إلى القاهرة بواسطة قطار النوم، حيث تم حجز كابينة نوم لمومياء الملك ومرافقة مفتش الآثار، الذى تم تحويله بعد هذه الرحلة الملكية إلى التحقيق الإدارى، حيث كشف أحد الموظفين البيروقراطيين أن مفتش الآثار لا يشغل الدرجة الوظيفية الأولى، وبالتالى لا يجوز له السفر بقطار النوم، أى أنه ارتكب مخالفتين، هما مخالفة اللوائح والقوانين، وإهدار المال العام.
ظلت مومياء السيدة العجوز ومومياء الشاب ومومياء السيدة الشابة داخل مقبرة الملك أمنحتب الثانى. وقد نجح هيوارد كارتر فى تعريف مومياء السيدة العجوز بكونها الملكة تى، وذلك عن طريق مقارنة ضفائر شعرها بخصلة الشعر التى عُثر عليها بمقبرة توت عنخ آمون داخل صندوق يحمل اسم الملكة تى، بوصفها جدته. وعن طريق التطابق الواضح بين شعر الملكة وخصلة الشعر من مقبرة توت عنخ آمون، عُرفت المومياء بكونها مومياء الملكة تى، وإن ظل هذا مجرد احتمال لا يرتقى إلى مستوى الحقيقة، إلى أن قمت فى عام ٢٠٠٥ ببدء المشروع المصرى لدراسة المومياوات، ومعى أساتذة كبار فى تحليل الحمض النووى، مثل الدكتور يحيى جاد والدكتورة سمية إسماعيل، وقد استطعنا تأكيد نَسَب مومياء السيدة العجوز إلى الملكة تى عن طريق فحص الحمض النووى ومقارنته بالحمض النووى لمومياء يويا ومومياء تويا، وهما والد ووالدة الملكة تى. كذلك نجح الفريق المصرى فى الكشف عن أن مومياء السيدة الشابة هى فى الواقع ابنة الملكة تى والملك أمنحتب الثالث، وأم الملك تى. وللأسف لا نعرف اسم المومياء، حيث إن المعروف أن أمنحتب الثالث كان له خمس من البنات.
وفى يوم الثلاثاء الماضى، كنت على موعد مع مومياء الشاب أو المومياء اللغز، التى قيل عنها إنها ربما تكون مومياء ابن الملك أمنحتب الثانى، كذلك فهناك اعتقاد بأنه فى الحقيقة ابن الملك أمنحتب الثالث والملكة تى، والذى كان من المفترض توليه الحكم بعد أبيه أمنحتب الثالث، ولكن موته المبكر هو الذى مهد الطريق لإخناتون لتولى الحكم. قام الدكتور يحيى جاد والدكتورة سمية إسماعيل بأخذ عينات الحمض النووى لتحليلها ومقارنتها بما نملكه من قاعدة بيانات لتفاصيل الحمض النووى لمومياوات الفراعنة. وبعد أن تم أخذ عينات الحمض النووى قام الأثريون بقيادة فتحى ياسين، مدير عام آثار مصر العليا، والأثرى على رضا، مدير آثار وادى الملوك، بتغليف المومياء وتجهيزها لتخرج من المقبرة إلى مستشفى شفا الأورمان لعلاج سرطان الأطفال بالأقصر ليتم فحصها بجهاز الأشعة المقطعية.
إن خروج مومياء من مقبرة بوادى الملوك حدث فريد من شأنه أن يلفت أنظار العالم، وهو أمر مفيد بالطبع لوضع اسم مصر على كل محركات البحث لعدة أيام دون أن نتكلف مليمًا واحدًا فى الدعاية للسياحة إلى مصر. ولذلك كان معى فى رحلتى إلى الأقصر مندوبو قناة ناشيونال جيوجرافيك، وقد أعدوا أحدث أجهزة التصوير فى العالم لرصد وتصوير الحدث العالمى. وفى مساء نفس اليوم عدت إلى وادى الملوك لكى أقوم بصحبة مومياء الشاب إلى المستشفى لفحصها. استمر الأمر قرابة الساعتين لخروج المومياء من المقبرة إلى السيارة المجهزة للنقل، والتى أطلق العمال وعساكر الشرطة عليها اسم سيارة الموميا. جلست إلى جوار السائق، وفى الخلف المومياء، ومن فوقنا طائرة مُسيَّرة (درون) تقوم بالتصوير والنقل، ومن أمامنا سيارات الشرطة تطلق صافرات الإنذار لفتح الطريق لسيارة المومياء!. ومن خلفنا تنطلق سيارات فريق ناشيونال جيوجرافيك. كان المشهد أشبه بمشاهد أفلام المغامرات. الغريب أن لحظة خروج المومياء من المقبرة كانت هى لحظة الإعلان عن فوز السنغال وصعودها إلى كأس العالم على حساب فريق الفراعنة، وذلك بعد ضربات ترجيح دراماتيكية. كان الرعب يملأ صدرى من أن يتم الربط بين هزيمة المنتخب وخروج المومياء من مقبرتها، خاصة أننى كنت شاهدًا على كثير من قصص لعنة المومياوات.
وصلت مع المومياء إلى مستشفى شفا الأورمان لعلاج سرطان الأطفال بالأقصر، وكان فى انتظارنا الدكتور هانى حسين، مدير عام مستشفيات شفا الأورمان، حيث قام باصطحابنا إلى حجرة جهاز الأشعة المقطعية، وهو أحدث جهاز أشعة مقطعية بالعالم، وهنا لا بد أن أسجل دهشة فريق عمل قناة ناشيونال جيوجرافيك بمستشفى الأورمان، وانبهارهم بالمستوى المتطور، وقد قالت لى المخرجة إن المستشفى فاق كل توقعاتها، وقلت لها إننى فخور بكونى شاركت فى حملة التبرعات لبناء هذا المستشفى لأطفال الصعيد. تم وضع مومياء الشاب على جهاز الأشعة، وقامت مجموعة من الدكاترة الشباب بالمستشفى بعمل الأشعة المقطعية للمومياء، التى تخطى عمرها أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وبعد أن تمت المهمة تحدثت إلى كل وكالات الأنباء والصحفيين، الذين حضروا الحدث وكانوا فى انتظار وصولنا إلى المستشفى مع المومياء، وذكرت لهم أننى سأقوم بعقد مؤتمر صحفى عالمى، فى يونيو القادم، لعرض ما سيتم الكشف عنه من نتائج تحليل الحمض النووى وفحص الأشعة المقطعية لمومياء الشاب، الذى تسببت لعنته فى خروج منتخبنا من كأس العالم.